بدايات الغربة : محمد علي الشبيبي.

بدايات الغربة.
بقلم : محمد علي الشبيبي. 

قضيت عدة أيام في أحد فنادق براغ بأستضافة أتحاد الطلاب العالمي مستريحا من عناء السفر بالقطار من بغداد حتى وصولي براغ في جمهورية جيكوسلوفاكية الأشتراكية السابقة. خلال هذه الايام تمتعت بجمال مدينة براغ مدينة التماثيل والاثار، والتقيت حينها بأحد زملائي في سجن نقرة السلمان، وهو الزميل المهندس صباح محمود شكري، وقد أستعدنا ذكرياتنا عن تلك الأيام وتبادلنا مانعرفه من أخبار عن بقية الزملاء. كنت أرتاد مقهى (أُبسني دوم) وهي مقهى يرتادها الكثير من الطلبة العراقيين كما كانت المقهى المحببة لشاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري. تعودت خلال أيامي القصيرة والمعدودة في براغ من تناول وجبة فطوري البسيطة صباح كل يوم في هذه المقهى. وكان الجواهري بملابسه الأنيقة وربطة عنقه وطاقيته التي أهدها له الاكراد وبقي معتزا بها طول حياته أعتزازاً بنضال الكرد ، يجلس أحيانا كثيرة بمفرده متأملا ويرشف قهوته. كنت أراقبه وهو يحتسي فنجان قهوته أو الشاي بهدوء وتأمل وكأنه يفكر في قصيدة يهديها لهذا الشعب والبلد الطيب الذي أستضافه أطيب أستضافة دون أن يطلب منه قصيدة مدح لرئيسه ثمنا لأستضافته، ففضل أن يقول الشعر في بائعة السمك دون أن يغضب ذلك رئيس الدولة والحزب. وفي أحد الأيام تجرأت وتوجهت لطاولته وعرفته بنفسي، وحدثته عن بعض أحاديث والدي وذكرياته عن النجف ومجالسها الأدبية والشعرية. ذكرته برواية والدي عن دوره في تبرأة أحد الشعراء النجفيين من الكفر، حيث أن هذا الشاعر (للأسف لم أعد أتذكر أسمه) وفي أحد المجالس النجفية الأدبية قرأ قصيدة طويلة أثارت لغطا وهيجانا بين الحاضرين وأتهم هذا الشاعر بالكفر وأختلف الحاضرون، بين مدافع عن الشاعر ومتهمين له، بنقل ما أنشده هذا الشاعر فلم يكن هناك من بين الحاضرين من هو قادرا على تذكر وبدقة أبيات القصيدة ماعدا الجواهري. وأستمرت المجاذبات والأتهامات لذلك الشاعر بالكفر وتطورت القضية وأحيل الشاعر الى محكمة شرعية أو ماشابه ذلك، وبما أن المحكمة الشرعية لاتثق بما يعيده الشاعر المتهم من قصيدته على أسْماعِها طلب أن يستشهد بأحد الحاضرين في المجلس وهو الجواهري الشاب والشاعر الصاعد علّه يتذكر القصيدة ويكون شاهدا على أن قصيدته لاتحوي من بين أبياتها مايشير الى الكفر، ووافقت المحكمة على أستدعاء الجواهري وأعاد إنشاد القصيدة كاملة، وكانت شهادة الجواهري هذه سبباً في تبرأة هذا الشاعر وأنقاذه من تهمة الكفر. ويذكر والدي بأن المحكمة برأت الشاعر ولكن معظم أعظاؤها، وحتى الوسط الادبي النجفي يعتقد بأن الجواهري نجح في تحريف بعض الابيات مما يبعد تهمة الكفر، حيث أن الجواهري أعاد أنشاد القصيدة الطويلة وكانت مطابقة لما أفاد به الشاعر أمام المحكمة!! تذكر الجواهري الحادثة وهو يبتسم ويهز رأسه مؤكدا هذه القصة، وأكد لي بأن شهادته كانت صادقة وأن البعض أتهمه فعلا بتحريف أحد أبياتها لنفي صفة الكفر في القصيدة. كان هذا لقائي الأول والوحيد بشاعر العرب الأكبر، وقد أبدى أهتماما بأخبار الوالد وحدثته بمعاناة الوالد والعائلة بعد أنقلاب 8 شباط الدموي، وكيف كنا في سجن نقرة السلمان نتطلع الى نشاط لجنة الدفاع عن حقوق الشعب العراقي والتي كانت برئاسته. كان يستمع لي وهو يهز رأسه بألم لتلك الاحداث، ويحمل الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم مسؤولية تلك المآسي و يردد من حين لآخر، كلما رويت له قصة من قصص الاعتقالات العشوائية والتعذيب والمحاكمات المهزلة، بعض أبيات قصيدته التي أنشدها أثناء أنقلاب بكر صدقي في أواسط الثلاثينات وكأنما يعاتب الزعيم عبد الكريم قاسم ليقول له أني أفهم طبيعة هذا الشعب المتمرد والقاسي وحبه للأنتقام، وقد حذرت من هذه المآسي منذ الثلاثينات، لماذا لم تسمع نصيحتي وتتخلى عن سياستك التي أختصرتها بمقولتك (عفا الله عما سلف)!: 
فضيق الحبل وأشدد من خناقهم ** فربما كان في إرخائه ضرر 
تصور الامر معكوسا وخذ مثلا ** ماذا يجرونه لو أنهم نصروا 
والله لأقتيد زيد باسـم زائدة ** ولأصطلى عامر والمبتغى عمر 

وغادرت براغ مساء يوم الجمعة 28 تشرين الثاني 1969 متوجها الى بولونية للألتحاق بدراستي ألتي تأخرت عنها كثيراً.


المصدر : بدايات الغربة / محمد علي الشبيبي/موقع تلازقيبا تللسقف www.telskuf.com