وعي على ذكرياتي (1) : فلاح الجواهري .

 الجواهري : وعي على ذكرياتي
فلاح الجواهري

اللقطة الاولى : 
ظلام متسع الابعاد لايقطعه الا بقع ضوء من كاشف السيارة تمتصه رمال البادية الرمادية الكابية فلا يترك اثرا، واهتزازات حاشية النافذة المعدنية التي يتكيء عليها راسي فوق وسادة يدي، و لمعان نجوم مهتزة عميقة الابعاد، وحزن ووحشة أعمق. هذه آلالة المزمجرة الرجراجة المتجهة الى المجهول تبدو في الصورة خاوية عما سواي وشيء ما هناك فوق سطحها لا اعرف شكله او مغزاه يثير الحيرة ويخز بالألم، اتذكره من حين لحين بين لحظات الظلمة المتسعة وبقع الرمال الرمادية الكابية والنجم المهتز وزمجرة الالة الحديدية الخاوية. تلوح من بعيد قبة نيرة لمّاعة..تقترب القبة.. تزداد اقترابا. شوارع مقفرة نصف مظلمة نجتاز بين مسافة فيها واخرى عمود انارة موحش في عزلته . شيء شبحي المعالم يرسم بلا وضوح دكاكين مغلقة..اقواس مداخل اسواق مقفرة شديدة الحلكة.
ظلال سوداء محددة المعالم على خلفية جداررمادي داكن.الظلال تتحرك تحيط بالسيارة،الظلال عباءات ووجوه وعمائم..تنزل عدة عباءات سوداء من السيارة ، لغط ونحيب وتلتف الظلال والوجوه والعباءات والعمم.
.وحشة قاسية وخوف شديد..
تمتد عمامة كبيرة داخل السيارة وترفعني يدان الى خارجها.
وجوه نسوية مبلولة تلتصق و تنّدي وجهي، وقبلات تغمره وولولة وبكاء تصخب اذنيّ..أُناول من يد لثانية ومن عباءة لاخرى ، يصيبني الدوار ارغب في البكاء الا انني اخشاه فتخنقني غصة وغرغرة في حلقي.
يحمل الصندوق من على ظهر السيارة فوق الاكتاف .. يطفو في الهواء ويتقدم ويمشى الجميع وراءه ، اطوفُ واهتز فوق احدالاكتاف..
يختفي الجمع، وتهرب الاصوات، ويتلاشى الصندوق..اطفو وحيدا في الفضاء..
الفضاء موحش .
 اللقطة الثانية :  
ساحة الدار فارغة ، ارضيتها من الطابوق الفرشي العريض المبّرد بندى الصباح الباكر..البيت يلفّه صمت مطبق .
اتفحص ارضية الدار، اراقب المربعات الصفراء االكابية المرصّعة بالمسامات والتنقير، واثار طحالب خضراء في بعض زوايا الطابوق العريض..تضيع الخطوط والالوان لبرهة.
ارفع راسي فيجابهني دهليز مدخل الدار نصف العاتم، المنتهي بالبوابة الخشبية الضحمة ذات الضلفتين وترباسيها الحديديين
اتامل ذلك لبرهة. تختلط التفاصيل ثم تضيع.
اتحول ببصري قليلا ،جدار حجري واسع، الوانه حائلة ومقشّرة، مرقشة بحفيرات عاتمة.
ازحف ببصري الى الاعلى ببطيء..
..جدار خشبي اخضر حائل مقشّر الصباغ ،ينوافذ طويلة تمتد وتمتد الى الاعلى ولا يستطبع بصري الارتقاء لحافتها العلوية.
..اخفض بصري واجيله فيما حول ساحة البيت..باب بني عاتم بضلفتين على اليسار، وعلى البمين سلالم حجريية ملصوقة بجدار بالغ العلوّ كالح اللون .
اتوجه الى السلالم بخشية ، الدرجة الاولى عالية ،احاول تسلقها وانجح بعد جهد واثابر فاتسلق الثانية بجهد اقل فهي اقل ارفاعا ، اواصل بدأب وأصل الى المساحة المربعة امام الباب الموارب. يأخذني الخوف من هذا الارتفاع الشاهق، فبيني وبين ساحة الدار ابعاد شاسعة..ادفع الباب فتجابهني عتمة سرعان ما انجلت.
.ادخل وانا أحس بفرح ينبع من الاعماق و ينطلق بصرخة..
 يرد عليّ الصمت فيتضائل الفرح ويختفي تماما عند مرأى السرير الوسيع الفارغ المبعثر الاغطية..
اجيل البصر..
مرآة ،امشاط وقناني صغيرة على دولاب صغير امامها..مقعد صغير مدوّر..قميص نومها مرمي باهمال على بساط ارضية الغرفة،..ستائر الغرفة العاتمة مسدلة على النافذتين الطويلتين.. بين النافذتين ماكنة خياطتها بطاولتها العالية وكرسي الخيزران ورائها.. دولاب الملابس في الركن القصي من الغرفة مغلق الابواب..اعود ببصري الى السرير فيتاكد لي،وبعد إمعان، بانه خالي الا من الوسادتين والاغطية المبعثرة فوقه..
اقف حائرا..تدبّ الوحشة وتزداد..
احس بغصة وغرغرة في حلقي وتتضبب التفاصيل وتغبّش امام عينيّ.
أتحرك ببطيْ نحو السرير..اتسلقه واضع راسي على وسادتها في الحاشية اليسرى من السرير فتغمرني رائحتها.
 امد جسمي التعب واحتضن الوسادة..اشعر بحزن..تعاودني الغصة والغرغرة وتتضبب عيناي من جديد..احس بوجنتي تتندّى..أغمر راسي في الوسادة اكثر فاكثر.. تسري رائحتها فيّ من جديد وتسري معها سكينة نا عسة وخدر وتغيب الاشياء
*
لا كان ذلك اليوم با مناهل، ولا كان نوري السعيد، بل و عساني لم اكن انا بالذات، و سواء أكان ما ارد ت، أم لم يكن، منذ فوحئت بنبأ هذه السفرة، التي كنت خالي الذهن عنها وزاهداً قيها..
إتفقنا على الحيلة المبتكرة للتملص من ذلك التكليف المنغص، بعد أن قطعت عهداً لنوري السعيد، وان كان لايصح ان يكون ما اتفقنا عليه، مكراً عابراً،على مثل نوري السعيد ومكره..
وقلت لك ابرقي لي يا مناهل ولنتفق على الحرف الواحد:
"إنِّ" ( وقد بدأ عليّ التشديد في- إن- )" والدتي في خطر".
لقد اسرعت بما فيك من نبل وشهامة، في تدارك هذا الاسم بالذات، لشدة ما أدركت من امر حبي العنيف لوالدتي فقلتَ لي:
" لماذا والدتك ؟ سأبعث لك برقية عني "..
وصلت بيروت وودعتك مشيعاً بقبلاتك وقبلات الاطفال، وكان ( الطيبي ) مترعاً بالطيبة كاسمه، وكنا نلتقي بين بوم وآخر.
في اليوم الخامس سلمني البرقية، بحروفها وكلماتها المتفق عليها، بما لا يختلف حرفاً واحداً :
" ان والدتي في خطر – فرات ".
دسستها في جيبي، وبفرح عارم من إ تمام الحجة و من قرب العودة..
فتحت جريدة الزمان.. ما هذا الاطار الاسود ؟ما هذا الاسم الذي يحمله واحمله مع الجريدة ؟!!
كانت الصحاف ممدودة، والملاعق بايدي المدعوين وهم ينتظرون ان امد يدي، واذا بهم يرون الجريدة قد سقطت من يدي،
شحب وجهي، ورأوا عيني ويدي المرتجفتين، ففزعوا لفزعي..
*
ايه يا مناهل..ما زلت عند قسمي وعهدي، يوم قلت لك " كفّي يديك !"..
اوتذكرين حين حا نت ساعة رامونة، بقينا رهيني صمت ابلغ وافجع من كل آ هة او دمعة، نحيب او بكاء.
اجل انني ما زلت عند قسمي، فلم ألمس اثراً مما خلفه الاخرون، وهم كثيرون.
اما انت يا حبيبتي، فلم تبرّي فيما بعد، فيما تعاهدنا عليه ( اقول ذلك وانا راج عفوك ) من انك ستكونين معفوّة، بعد عمر مديد من ان تلمسي او تبعثري اسلابي. اقول لك – ايها الملاك، ويا ايتها الروح التي اعيشها –وقد تجاوزت بك الحياة ومداراتها، العمر والزمن، حتى لكأنك تبدين لفرط ما عانيت، اكبر مني سناً، اكثر مني تعباً، واشد نسياناً.
ها انت ذي شاخصة، ماثلة، عائشة، وقد بلغت ما بلغت من العمر، وبفارق عشر سنين كان، وما يزال بيننا، ارى وجهك
كما كان في عزّفتوته، وارى بسمتك لحظة تشرق، وانت معي كل يوم وليلة، في كل بيت، في كل بلد، في كل غرفة.. في مدارج حياتي، في منامي، في اطيافي واحلامي.
يا مناهل.. الروح تهزأ بانياب الدهر، بمخالبه، باشداقه..تهزئين بها.. تشقين الصمت، تمسكين بروحي التائهة الشرود، فاعود معك الى ثلاث سنوات من العشرينات، ونؤوب معاً الى ثمانٍ من الثلاثينات، نسترجع ما كان وما يبقى. انك معي الآن، وانا، اسجل ما اسجل.. طائفة حولي، تسمعين ما تهمس خواطر القلب.
انك ما تزالين تدقين وتدقين على النافذة وانا في غمرة ليلتي هذه، في الواحدة من صباحها، الواحد والعشرين من الشهر الثاني من عام 1988 وها انت تدقين النافذة..تدخلين..تتوقفين..تتأملين ما سيكون مني وانا اكتب، بمثل ما سبق لك ان قمت به، وفي ليلة لايصل فيها الى السمع حتى همس نسيم ولا رفيف شجر، عندما كنت وانا على وشك ان انقل الى المستشفى لعارض مفاجيء اصاب قدمي ببغداد، وفي غرفة نومي من دارنا بمحلة- القادسية-، وبمثل ما سبق لك من ذلك وقبل اعوام قليلة، وانا في دمشق وفي ليلة ليلاء عشت صباحها، وقد اوشك بصري ان يذهب.
وليلة اخرى يا مناهل وانا في براغ، وعلى حال مفزع من الالم والقلق، تدخلبن وتتأملين ما اكتب اليك وعنك، وتعلمين علم يقين راسخ، ان قلمي سيمضي في وصف خصالك وفضائلك، ومكارمك، ولطفك وصبرك، وان هذا الوجيب الذي يملا ملكوت الروح سيتوج ذكرياتي، لاقول ما لا استطيع الفكاك عنه ولا يستطيع الفكاك عني..

 وقلت لك يا حبيبتي مناهل:

في ذمـة الله  ما ألقى و ما اجـدُ
                    أهذهِ صــخرةٌ ام هـذه  كبــدُ
قد يَِِقتلُ المرءُ من أحـبابهُ بَعـدوا
                    عنهُ فكيفَ  بمن أحــبابهُ فُـقدوا
بالرُوح رُدي عليـها إنها  صــلة ٌ
                    بين المحـبينَ مـاذا ينفعُ  الجسـدُ
بكـيتُ حتى بكا من  ليس يعرفنـي
                    و نحتُ حتى حَكاني طـائرٌ غَــردُ
إنا الى الله ! قولٌ يســتريحُ  بـهِ   
                    ويستوي فيهِ من دانوا ومن جحدوا
مُـدّي اليّ يداً ، تُمـدد  اليـكِ  يدُ      
                    لابدَ في العيش  أو في الموتِ  نتحدُ
غطى جناحاكِ  اطفـالي   فكنتِ لهم  
                    ثغراً اذا إستيقضوا ، عيناً اذا  َرقدوا
قالوا اتى البرق عجـلاناً  فقلتٌ لهم  
                    واللهِ لو كـان خـيراً أبطـأتْ  بُرُدُ
ضاقت مرابعُ لبــنانٍ بما رَحُـبَتْ   
                    عليّ والتفّتِ  الآكــامُ  و النُجُـدُ
تلك التي رقصـت  للعينِ بَهجـتُها   
                    أيامَ  كنا و كانتْ  عيشــةٌ رَغَـدُ

(فقرات من " مذكراتي " الجواهري")

 لقطة من الاربعينات (شدي الرحال يا أم نجاح)
افيق مرعوبا على صوت مدوّي فاقفز صارخا من سريري الحديدي واركض دون وعي خارجا من الغرفة الخالية الى ساحة الدار ذات السقف العالي.ابواب الغرف المطلة على الباحة مشرعة فاركض صارخا الى كل واحدة منها ويزداد هلعي حين اجدها كلها خاوية…. يتجدد الصوت المدوّي فيزداد هلعي..لم يبق الا السلم الذي يقود الى السطح..اركض تجاهه واصعد درجاته بسرعة مستعينا بكفيّ..اسمع لغطاً في السطح وأجد الباب مفتوحا على مصراعيه..تهبط سكينة مفاجئة وانطلق مكركراً لألتصق الى ساقيّ اختي.
الكل منشغل بالنظر الى السماء..ارفع بصري انا ايضا..طائرتان بجناحين الواحد فوق الآخر، تقتربان ثم تبتعدان عن بعض، وتعلو واحدة وتهبط الأخرى،ويعود اللعب المسلّي هذا مرات ومرات مع اصوات مفرقعات تختلف شدتها تماما مثل اصوات المفرقعات في ليلة المحيى.
.يدوّي من بعيد صوت يشبه ذلك الصوت الذي استفقت علي.
" هذي القنبلة في سن الذبان "..
..هذا الصوت المرعب هو قنبلة..قنبلة!
..اوجه ضحكتي الى خالتي الواقفة بجوار اختي واكرر..سن الذبان..سن الذبان..للذبان اسنان ! اسنان الذبان..ذبان الاسنان.
*
يرن جرس الباب اركض لافتحه..اطال القفل وافتحه بعد جهد قليل.. يدخل والدي بقامته الطويلة.يطل عليّ مبتسماً..
..يخفي شيئاً وراء ظهره.
.. يتحرك بمكرٍ الى زاوية في ساحة البيت فأتبعه..يدير مفتاحا صغيرا داخل شيء يحاول ان يخفيه عدة مرات..
.. يضع ذلك الشيء على ارضية باحة الدار فتنطلق دراجة نارية صغيرة تدور مع راكبها الصغير حول ساحة الدار محدثة ضجة وصفيرا..
..ادور بفرح وجذل وانا اكركر خلف الالة الصغيرة..
..تختفي كل معالم الدار الوسبع ومن فيه..لا شي في الدنيا غيرنا يدور..الدراجة وراكبها الملون الصغير وانا من خلفهم.
*
بيت شرقي بدورين ،ساحة مربعة ببضعة غرف تنفتح عليها، مع حوض ماء غير عميق مربع الشكل وسط الساحة ،عدة غرف في الدور الثاني مع ممر امامهم يلتف حول اكمل الدار.نساء وثلاثة اطفال.
طفلة بوجه ممتليء وعينين زرقاوّين واسعتين وشعر أشقر وملابس ملونة برّاقة، تقاربني سنا ،تتقدم اليّ ّوبابتسامة واسعة تسحبني " بيا بيا "!
..اتبعها الى غرفة طويلة مفروشة بالحصر وعلى الاجزاء المجاورة للجدران منها تمتد فرش بوسائد اسطوانية طويلة.
تجلسني في احد الاركان امام دمى عديدة مختلفة الاحجام مصبّغة واسعة العيون، عليها قلائد مخرّزة، وامامها صحون وملاعق صغيرة.." بيفرما " !.
 تلعب "بوران" التوكي في الدرب المقابل للبيت..
..اجلس على عتبة الدار اراقبها.
 ارمي احجاراً في النهر الضيق القريب. اراقب واجهات البيوت الحجرية والطينية في الجانب الاخر من النهر.
ارمي احجارا في النهر الذي لاارى مياهه..
اخطّ بإصبعي في التراب..انهض.. اسحبها " بيا بيا " !
نهرول على طول الدرب الموازي للنهر..
جسر حجري فوق النهر..
" خشخاش..خشخاش سكّري..خشخاش ".
 يقترب رجل بسروال عريض أسود.".خشخاش"..يُنزل طبق الخوص الذي يحمله فوق رأسه. تدفع له بوران قطعة نحاسية فيعطيها نبتة يابسة..ساق رفيع طويل ينتهي بكرة يابسة مجعّدة بلون بني كابي..تهزّها قرب اذني فاسمع خرخشة مكتومة
..تَكسر فتحةً في الكرة المجعدة اليابسة وتمسك الساق من اعلاه وترفعه..تلقي برأسها الى الخلف وتفتح فمها وسيعا وتنكث الكرة المتيبسة فيتساقط نثار من بذور عاتمة ومسحوق ابيض..تناولني النبتة اليابسة.
..الحبيبات تنهمر في فمي وينهمر معها المسحوق الابيض السكري.
أجرش الحبيبات باسناني فيلسعني طعم شديد المرارة فألوكُ معه السكر المتبقي في فمي.انتظر برهة وافرغ ما تبقى من محتوى الخشخاشة وألوكهُ بأصرار.
..لا زلنا واقفين على الجسر الحجري،ولا زالت بوران ترطن بكلمات لا افهم معظمها..اتأمل النهر والبيوت الممتدة على جانبيه.
..اخذ النهر يتسع ثم يطول ويتلوّى..البيوت تتلوّى على جانبيه..ترفرف مثل قطعة قماش مرسومة.
اهتّز الجسر وتراخت ساقاي.
.تشبثت بإصرار بسياجه الحجري.
النهر الطويل العريض المتلوّي بدأت نهايته البعيدة ترتفع شيئا فشيئا نحو السماءومعها نهاية الدربين ببيوتهما..
.. على حين اخذ جزء النهر القريب من الجسر يتسع اكثر فأكثر..
..انا والجسر نغوص حتى يكاد ماء النهر يغمرنا،ثم بدأ النهر- المنقلب صعوداً- والبيوت على جانبيه تدوروتتزايد سرعة دورانها..
انا انزلق و تمتد ساقاي على ارضية الجسر وظهري يحاول الالتصاق والاستناد عبثاً على جدار الجسر..
اميل على احد جانبيّ واستند على كفي.
..ارى شبح بوران الملون المهت، الواقف امامي يظهر ويتلاشى..
يعود شبحها متارجحا على طبقات متراكبة يشف، بعضها وتلمع الوان البعض الاخر منه بصخب..
اسمع ضحكتها هامسة من بعيد ثم مقتربة و متعالية بكركرة يزداد صخبها أكثر فأكثر.
..تتحول الالوان والخطوط المهتزة الى ضحك متصاعد مجلجل، وضجيج،
 ورنين معتم وشفاف، ازرق، ووردي، وبنفسجي موشى بخطوط حمراء.
*
الوالد وخلفه خالتي وشخصان صغيران في قرية جبلية متربة ببيوت طينية خربة.
..تحدث طويلا مع رجل ملتح بسروالين طويلين منتفخين وعمّة صغيرة..الرجل يؤشر بكثرة بيديه. صوب الجبال المتشامخة..الوالد يصغي بانتباه.. يتبعه الى مكان غير بعيد..يختفيان عن الانظار.
..الرجل الملتح يتأرجح فوق بغل ضخم في ممرات جبلية ضيقة مليئة بالاحجار.
..قمم تكسوها الثلوج..انا اجلس قريبا من عنق بغل بني عاتم.ذراعا والدي تحيطان بخصري بإحكام..
اذنا البغل تتحركان متعاكستين.
.تفلت بعض الاحجار من تحت قدمه الامامية اليمنى وتنحدر من على الحافة القريبة.
اتابع الاحجار المنحدرة وهي تتسارع ساحبة معها احجارا اخرى واتربة..يتوقف البغل ويدير رأسه تجاه الوادي..اتابع المشهد الذي ينظر البغل اليه..
..لا أزال اشاهد الأحجار المتهاوية وهي تتضائل بسرعةمبعثرة الضخور العاتمة الضخمة ثم مختفية في هوة لا يستطيع بصري المشدود اليها ان يصل الى قرارها..
احس انني احلّق منفلتاً من على ظهر البغل ثم مسحوباً الى الهاوية حيث اختفت الاحجار.
..أتشبث بكفيّ والدي الضخمتين المطبقتين على خاصرتي.
..ينظر البغل بسهوم برهة الى المنحدر، ثم يبدء بالسير بخظوات متمهلة حذرة.
يتقدم على حافة الهاوية دائماً.
..الاحجار تنزلق من تحت قدميه وتتدحرج على المنحدر الزلق وتأخذ معها احجاراً
اخرى واتربة ثم تطير الى الهاوية محدثةً ضجيجاً واصداء يستمر رنينها طويلاً في اذنيّ..
الحافة الحرجة هي اليمنى دائما..على اليسار فسحة كافية من الممر الحجري.

– الله الله..شوف النذل..الله الله!! سيرمينا في الهاوية..آغاي..آغاي صرفت ميكوني..اغاي سمع نداري!!
نصل الى قبة خضراء لامعة، فوق هضبة فسيحة خضراء،بداخلها فسحة، ارضيتها من بلاط اخضر.
عُمد خُضر..جدران بفسيفساء خضراء وبسط خُضرممدودة في الحواشي.
هنالك بركة مرمرية صغيرة خضراء، مائها الزجاجي المتلامع يكشف عن قاع مليء بقطع نقدية معدنية براقة..
ترمي خالتي بضع قطع فتهتز الصفحة الزجاجية وتنزل القطع بميلان مختلف فتحرك بعض القطع في القاع وتضيع بينها .
*
 انا في درب حجري خالي مترب، على يساري كتل صخرية تتصاعد الواحدة فوق الاخرى الى السماء.
على اليمين مني حافة الوادي السحيق..
" دير بالك تجي قريب منه..تره تموت!! ".
.انا لا اريد ان اموت.
البيت الخشبي القريب مني معلق فوق حافة الموت..
لا أحب البيت الخشبي هذا والمعلق فوق الوادي..فوق الموت..
ألجُ اليه بحذر..الواح ارضية البييت الخشبية لا تهنز تحت قدميّ، مثلما تهتز هي تحت قدميّ والدي.
..الخالة في المطبخ المضيء..البيت كله مضاء بأحزمة الشمس المغبرّة.
رائحة ال( آب كشت ) في كل مكان.
ادخل المطبخ.خالتي تخرج لحمأً من قدر الآب كشت.. يتصاعد بخارمتقطع.
تضعه في هاون خشبي.
تخرج حمصاً من القدر.بخار الحمص أقل..(.لبلبي)!.
 اتذكر اُهزوجتنا في الزقاق في بغداد " يا لبلبي يا لبلوب والعانة ترس الجيوب ".
تضعه في الهاون.. تدق بعمود خشبي قصير في داخل الهاون.رائحة اللحم تفوح.
اشعر بجوع فجائي شديد.أظل واقفاً الى جانبها..كم ستضل تدق؟!
تعطيني عجينة صغيرة دافئة..أهرول الى البلكونة الخشبية المعلقة فوق الوادي المميت.

والدي يجلس بملابسه الداخلية وراء طاولة صغيرة فوقها قنينة صغيرة وقدح به ماء مُضبب.تنقطع دندنته.
.. والدي يدندن كثيراً . ينظر اليّ ويبتسم.
اتجاوزه واتوقف عند السياج ذي الاذرع الخشبية المتقاطعة..اقضم عجينتي الدافئة وانظربحيرة الى السلاسل الجبلية في الجانب آلاخر.
..هي اعلى من السماء فالسماء تبان من بين قممها المغطاة بالثلوج، وهناك غيمات صغيرة تتحرك تحتها..
 أحس اني أطفو واتحرك بإتجاه معاكس.
ادوخ.أتشبث بالسياج..
أمد راسي من بين أذرع السياج الخشبية بحذرشديد..اطل بعينين جاحظتين مرعوبتين.
عجيب !،لاشيء مخيف في القعر..جدول ماء يجري على عجل بين صخور تبدو صغيرة متناثرة
بين تيار الماء الصاخب.. تتراقص هنا وهناك في التيار، بقع شمسية متحركة..اشجار تبدو صغيرة جداً على جانبيه بل أني بدأت اميز اجساماَ صغيرة لاناس يجلسون على ضفتيه.بل ها هو البعض يخوّض بين صخوره..
كم ارغب في أن أشاركهم لعبهم هذا!
..تتصاعد اليّ وشوشة الماء ومعها دندنات والدي.
*
اصعدّ بصري شيئا فشيئا. لا ارى نهاية للجبل الذي يتسلق السماء الصافية الزرقة، صخور وأكمات واحجار وأشجار وجداول بماء بارد وسناجيب وماعز وكلب يهز بذيله وينبح بمودة..
سقيفة باغصان مورقة خضراء وكالحة واخرى متيبسة تنفذ بقع الضوء من خلالها فوق ارض مندّاة نظيفة فوقها اسرة محيوكة من اعواد غليظة.
..نتبارى بوضع اكفنا في تيار الماء المتدفق القارص البرودة، المتلامع بانعكاسات الشمس والحصى المتلوّن..نقرب اصابعنا من افواهنا وننفخ فيها بشدة.
 نتسابق الى اشجار الكرز ونتسلقها كالقطط..
 نقطف الحبات القرمزية ونعبي افواهنا
..تسيل دماء الكرز فنمسحها باكمامنا.
نتغوط حبات كرز
*
صفارات انذار تنعب بصوت حاد يثير الخوف. تسود الظلمة فاصرخ.
اتلمّس ابي الذي يهرع الى جانبي.
يرفعني ابي ويضعني في رازونة عميقة في الجدار..
" لاتخاف"!.
اسمع همهمة في الغرفة المظلمة..تنتاب احدهم نوبة سعال شديدة.
تمضي فترة طويلة قبل ان ينبعث الضياء في الغرفة..
يمسك والدي بيدي ونخرج الى ممر الفندق الطويل الخالي.. ننزل درجات مغطات يسجادة حمراء
.نخرج الى الشارع..
الشارع خاوي وشبه مطلم..لا مياه ملونة تندفع عاليا من النافورة الضخمة وسط الساحةالواسعة.
نخطو بضع خطوات..يتوقف والدي، ثم يتلفت في اتجاهات مختلفة ويسحبني برفق عائدا.
*
تكاد المياه المتماوجة المعتمة تصل الى حافة القارب المائل
" الله الله.."مولانا شوفلك جاره مو راح نغرق" يتعالى صوت والدي بغضب.
ارى كف المجذاف تغوص في عتمة الليل والمياه وترتفع..اتابع اصواتها الرخوة الرتيبة.
ارى اضواء تتماوج فوق صفحة الماء واضواء ثابتة غير بعيدة .. يترائى الشاطيء.
 
– هلا بيكم هلا ومرحبة..على كيفكم من تنزلون!..انطيني ايدك!..تعال تعال لا تخاف !
يرفعني رجل غريب وينزلني على سلم حجري لا يعلو كثيرا عن مياه النهر. يمسك بيد كفي، ويمد الاخرى الى آخرين في القارب.
-هلا هلا..حمد الله على السلامة هلا هلا.
على السلم يعانق والدي الرجل الغريب
– تعّبناك ويانه يا اخي عبد الرزاق بنص الليالى.
– نوّرت ْ البصرة بيك ابو فرات.
*
اجلس الى جانب الرجل الغريب" ابو سعود"..الى جانبه الاخر والدي وبقية العائلة.        
كراسي مساندها حديدية سود بمقاعد من قماش ابيض متسخ.
اناس كثيرون يجلسون من حولنا في فسحة كبيرة تحوطها جدران بيضاء وفي مقدمتها قطعة قماش كبيرة بيضاء
.كل شيء ابيض..لمَ يسميها الرجل الغريب الحمراء..سينما الحمراء.
الانوار مطفأة..نجوم كثيرة تتلامع في السماء من فوقي..امامي رجال فوق خيول متراكضة ينفخون ابواقاً طويلة..
تمتلأ الساحة والفضاء باصوات عالية ذات صفير.
*
اركض بفرح فيي ساحة البيت.. افتح ابواب الغرف المغلقة وادور فيها واحدة واحدة ممثلاً سيارة مسرعة تجأر مكائنها وتطلق "هورنها" بين مسافة وأخرى..
كل شيء يغلفه الغبار،حتى اسجار الحديقة واالفراندا المطلة عليها وارضية السطح الفسيح.
تعصّب خالتي واختي راسيهما بمنديلين وترشان كل شيء بالماء من جردلين يتطوحان من يديهما.
أخرج باحثا عن شلتي من الصغار.
يعود والدي في المساء
– سوّاها النذل، سوّاها النذل، يدمدم بغضب.يدخل الى المطبخ حيث تتواجد خالتي.
اسمع صرخة ألم.
اسمع نحيبا وشهقات تتعالى.
– البيت،البيت والمطبعة..هذا النذل" الدويك" يا الآهي صدُك سوّاها النذل..رهنهم؟!..هذا هو صديقك العزيز؟! ما راح نخلص من اصدقائك الاعزاء..هذولِه راح يدفنونه بالحيا !
*
..كان قد انتهى امر( الجعجعة ) ومصيرها ومصير رشيد عالي الكيلاني نفسه ومصائر من معه من ماشين على خطه اومخدوعين او مغلوبين على امرهم، بل ومصير العاصمة العراقية كلها، وقد فرغت هي والعراق كله من حكومة تحكمها او من خزينة تمولها، ثم ليسد الفراغ الموحش بعد يوم او يومين عودة الامير عبد إلاله ومن معه من اتباعه..وقد تألفت وبسرعة وزارة جديدة برئاسة جميل المدفعي..
كانت الاحداث رهيبة، والدماء تسيل. قال لي: "هذه فرصتك ان تعؤد (الرأي العام ) –المغلقة-الى الصدور "
وفي بغداد علمت من نور الدين داود – مدير الدعاية العام- كل التفاصيل المكلف بابلاغي اياها من قبل (المدفعي) عن ضرورة اعادة جريدتي (الرأي العام ) الى الصدور،ولم يفوّت عليّ التلويح بما قد يعوزني بهذا الصدد من ( امور مادية!)
قلت فيما قلت، انه لو فرش الطريق ال الجريدة ذهباً لما اصدرتها..
القادمون على أنقاض (الكيلاني) يسعون ورائي ويضايقونني بمثل ما ضايقني به..( الكيلاني ) اراد مني قريضاً،وغرمائه يريدون الجريدة، ذاك ارادني أن ابارك، على نحو غير مباشر، النازية مستغلا غضبي على الانكلبز، وهذا يريدني مادحاً له وفي ظل الحراب البريطانية.
لقد كانت برطانيا خصماً مباشراً لوطني، ومنذ العشرين وانا محرّض علبها. اما النازية فقد كانت خصماً للبشرية كلها، وليس لبلادي فحسب، رغم ان هذه الجقيقة لم تكن جلية للعيان وبخاصة فلدى الجماهير العربية المضللة.
طلبتُ من زوجتي ان تستعد، مجدداً للرحيل، بل للتشرد و التشريد..
واستودعنا البيت بما فيه من حطام الد نيا الى صديق من الاعزاء هو ( محمد دويك )..ودفعنا الثمن الغالي.. وتوجهنا الى ايران.
دخلنا ايران عن طريق جلولاء فألى كرمنشاه، حيث مقر اخي الاكبرالمتغرب (عبد العزيز )..الاعز لديّ.
ونزلنا ضيوفا عليه عدة ايام، لنفترق عنه ونحن في طريقنا الى طهران، الى فندق صغير متواضع، ولسوء الطالع فبالقرب من وزارة الدفاع، المهددة بتلقى القنابل والصواريخ من الزاحفين..الجيوش السوفياتية تتحدر من الشمال، والبريطانية تتصعد من الجنوب (من العراق )..
اقيل الشاه واعتقل منفياً الى مثواه الاخير، وجرى باتفاق الزاحفين تنصيب ولده الاكبر ( مخمد رضا) ملكا بديلا عنه ..
وفي مثل هذا الجو المتعب وجدنا انفسنا في بلد متأزم وظروف متأزمة كانت وكأنها على موعد معنا ، وهي اشد ايلاما لنا من الجو الذي هربنا منه..
كان لابد من العودة .. بيد ان ظروف السفر وسبله كانت شبه عصية، فالحكومة الايرانية تعلن للمسافرين ان الحفاظ على ارواحهم امر متعذر، ومن يريد ان يغادر ايران فهو المسؤول عن نفسه، ويعد ذلك الى ان فلول الجيش الايراني المهزوم قد تحولت الى عصابات قطاع طرق. ولم تبق لنا من وسيلة للسفر سوى القطار عن طريق الاهواز فالبصرة.. وصلنا الى الاهواز ومنها بسهولة فإلى البصرة ونزلنا بضيافة الصحفي الاديب الشاعرالصديق عبد الرزاق الناصري.
(مقطع من ذكريات الجواهري " مذكراتي ").


المصدر : جريدة إيلاف 2006 الأحد 5 نوفمبر www.elaph.com