الجواهري : وعي على ذاكرتي (6)
فلاح الجواهري
كنت امام فوانيس الرقوق الشعاعية اجيل النظر في حل طلاسم ظلال وخطوط اعماق صدر مريض يرقد في احد ردهات مستشفى الكندي الكئيبة وعلى الطاولة المعدنية الصدئة ترقد عشرات الرزم لرقوق مرضى آخرين تنتظر دورها لتعلق على صناديق الفحص المضيئة.
الغرفة- وهو- تعبير مجازي لما كان زاوية لادوات تنظيف ارضيات المستشفى الكبير، فهنا كانت تتكدس مكانس وجرادل وماسحات ومساحيق واكياس بلاستكية وقناني مطهرات وخرق مسح والعديد من علب حبيبات قتل الفئران والتي قامت المستشفى – مشكورة – بافراغها من كل ذلك، لتحيلها من بين عشرات الغرف الفارهة لاطبائها، لتكون غرفة فحص الطبيب الجديد (الجواهري) طبيبها الاختصاصي الوحيد في الاشعة التشخيصية.
ويا لسعادتي بهذا المكان المنزوي عن انظار ثلة المخبرين و مسؤولي الامن والزملاء من مستقبلي وجاهات (الرفاق) والمسؤولين، فغرفتي لا تحتفي بهم لا لأن الغرفة لاتتسع لهم ولمرافقيهم – حتى وإن وقوفا -، ولكنها وهو الاهم، لاتليق بمقاماتهم. غير ان رقوق فحوصهم كانت تأتي برسول خاص من الادارة او من اماكن انتظارهم في غرف اطباء تليق بمقاماتهم.
… الانزواء سعادة حتى في جحر ضيق. !! ولكم ان تسألوا بطل الجحر الشهير لو كان لديكم اي شك في ذلك!
لسعادتي – الاصح جذلي – سبب آخر…
كانت هذه المستشفى وجحر فئرانها، مكان عملي هناك، هو (المطهَر) من(جحيم عصام الراوي) ومحرقته… محرقة الطب الذري او مجازا معهده.
… لم يكن عبوري الى ذلك الشاطيء الآمن دون قارب…
– تلفون!! دكتور.
بالطبع لا حاجة لسؤال مُعين قسم الاشعة عن مكان الهاتف، فهو على طاولة مسؤول امنها الفخمة.
– ومن على الخط ؟
– رئيس تحرير جريدة الثورة… حميد سعيد.
حين قدمت الى غرفة امن الاشعة، وهو رئيس مصوريها ايضا، اخلى لي مكانه وراء طاولته الفارهة لا احتراما لي فحسب، ولكن للذي يطلبني وراء الخط.
– صباح الخير دكتور… كيف حال ابي الزهراء ؟
– اهلا بابي بادية… صباح الخير. كيف انت ؟
– لدي عندك طلب ارجو تلبيته… لا اريد تذكيرك! ولكن خدمة بخدمة يا فلاح!
عجبا ما هي هذه (الخدمة) التي يطلبها (حميد سعيد) رئيس تحرير جريدة السلطة –الثورة -، منصة العبور الوسيعة للوزارات.
– لن انسى تلك (الخدمة) والاصح يا ابا بادية لن انسى ذلك الفضل ما حييت… قل! ولك ما باستطاعتي.
– التلفون ليس هو المكان المناسب لهذا الطلب… ما رايك بفنجان قهوة في مكتبي بالجريدة… هل الساعة الرابعة وقت مناسب قبل ذهابك الى عيادتك ؟
– مناسب… سأكون عندك في الرابعة.
… كيف انسى يا ابا بادية تلك (الخدمة)، لقد كنتَ انت قارب النجاة لي في العبور من(جحيم عصام) ومحرقته الرهيبة… محرقة الطب الذري.
(لجحيم عصام وللعبور منه الى المطهر حلقة خاصة)
***
كانت معرفتي بحميد سعيد ترجع الى عام سبعة وستين.
… كنا نحن مجموعة (فنون)، صحيفتنا الاسبوعية التي ولدت وامتد عمرها لعددين اثنين، وخنقت وماتت في مخاض عددها الثالث، في زاوية احدى المطابع المسكينة في احد فروع شارع المتنبي بعد ان شرب(الحصيري)رحمه الله وحتى الغيبوبة اجور طباعة العدد المحتضر، كنا نلتقي بشكل شبه منتظم في مقهى الزهاوي.
كانت مجموعة (فنون) هذه او ما يحب ان يسميه ماهود بتجمع (الانسان) تضم حسب الشيخ جعفروماهود احمد وانا والحصيري وممول العدد الاول وراعيه، بكل ما ملكت ايمانه وايساره وجيوبه، عصام البصام، والذي منا ولا زلنا نعترف تكفيرا، اننا تناهبنا مكتبته الادبية العامرة، والمشرعة ابوابها امامنا، دون رحمة.
(لمشروع فنون وجماعتها صفحات قادمة اخرى)
عند تاخر او غياب (حسب)، كنت اقوم بتفقده في تلك الغرفة البائسة من احد الازقة خلف جامع الحيدرخانة، و التي يعطر جدرانها البول، واكثر زواياها عطرا ما كان تحت شعار ازقة بغداد الاكثر شهرة : (هنا… البول للحمير).
في تلك الغرفة الرطبة نصف المظلمة والتي لا تجد فيها الا سريرين حديدين (عصمليين) واغطية
نصف ممزقة ومتسخة وبضعة اوان ٍ لم يصل دورها في الغسيل بعد، واقداح شاي فارغة، وحقائب مفتوحة لملابس تـُرتدى على عجل،واكداسا من الكتب… مجاميع تحتل العديد من زوايا ارضية الغرفةالعارية وفسحة ما تحت السريرين، و سترة بدلة (حسب) السوداء المعلقة – بأناة – بمسمار فوق جدار الحائط المتهري والذي تـَحول الصحيفة التي ثبتها(حسب) عليه، من وصول رطوبته واتربته الى نصف البدلة العزيزة تلك، اما النصف الثاني منها اي البنطال فهو دائما، ونتيجة لخبرة سنين طويلة خلت، يستقر تحت (متراس) السرير كاحدث وسيلة عصرية ومجانية للكي.
في احدى تلك الزيارات، كان هناك شريك الغرفة الثاني، شاب وسيم الوجه تكسوه حمرة خجل دائم – في تلك الازمنة السحيقة –، يجلس مطرقا بحزن وذهول واستغراب على حافة السرير الحديدي الثاني… صامت صمت سليمان في اغلب الاوقات… كان ذلك الشخص المطرق، الخجول، المستغرب، الصموت، هو حميد سعيد.
متخفيا كان… او شبه ذلك، عن انظار السلطة بين عتمات ذلك الزقاق الهرم من حارات بغداد.
مع تكرار زياراتي لحسب، والتي كانت تصخب باحاديث مرحة ومشاريع وذكريات عن رفقة حميمة في موسكو ومغامرات صيد غرامية كان اغلبها يمنى بالفشل الذريع والمكلف، ومجاعات مؤقتة تصحبها هجومات مفاجئة على ما يخفيه احدنا من شاي وسكر وزيت في دواليبنا عن انظار الاخر، وصداقات اشخاص اسطوريين كانت لنا بهم علاقات فوضوية ولا اكثر اسطورية وفوضوية من الشاعرالسوداني المبدع الراحل (الجيلي عبد الرحمن) ولا ارق واشف من الشاعر المرهف (تاج السر الحسن)، ناهيك عن ملك الغجر دون منازع – آنذاك – الفنان بالفطرة من اخمصه لحد انفه الاعقف الطويل، ماهود احمد.
– هل تذكر يا حسب حين نصبناك انا والجيلي وماهود في مقهى الشباب بموسكو اميرا لشعراء الهور والجاموس والقصب ؟!
وحين رسمناك عاريا ممسكا بشموخ صولجان القصب الفاره وعلى رأسك تاجك المجدول من البردي والحلفاء ؟!
لم تتبدل اطراقة حميد ولا ذهوله الحزين ولا صمته في ذلك الصخب المرح من الذكريات الا في لحظات قليلة معدودة وبعد ان يستدرجه رفيق غرفته الى ذلك باصرار مرن.
***
… ونفذت مؤامرة انقلاب جديدة، واتى البعث ببراقع خادعة وحلـّت جبهة (الحُليّ) كما كان يسميها الجواهري ممازحا اصدقائه من قادة الشيوعيين واليساريين، في اشارة الى بيت شعر خليع قديم يؤرخ ميلاد إبنة احد المعممين الحليين والتي اسماها الشيخ (جبهة)…
"وانتضى القومُ (…..) حين حلـّ ــــتْ جبهة ُ الحلي ّ ِ، أرّخْ!! زنارَها ".
دعت (جبهةُ الحُلي) الجواهري للعودة ودعمنا انا واميرة هذه العودة في نداء تلفوني حار الى مكان اقامته في براغ.
… عاد الجواهري، ونزل و ام نجاح وظلال في الدار التي استأجرتها في (داوودي المنصور) وهو من الاحياء الجميلة في بغداد.
عاد ولم " يرح اخو الطير ركابه "، وما نفعت مناشدتة لنفسه لا حدوا غنائيا ولا القاء ً عاصفا مكررا : " أََ رِحْ ركابكَ " في تحقيق ذلك.
(… لعودة (غريب الدار) صفحات، ستأتي لاحقا)
***
كان تردد حميد من داره القريبة الى دارنا غير قليل، ولا موعد محدد لذلك التردد الذي كثيرا ما يكون في الاماسي، حين يفيق الجواهري من قيلولته ليجلس في صالة الضيوف وحيدا في اغلب الاوقات إن لم يزره انبل واصدق صحبه، ابو نوال (مهدي المخزومي) طيب الله ثراه، فلم يكن قد بدء الترحيب الرسمي الصاخب بالجواهري بعد، ولم يحن بعد تذكر(محبيه الكثر) انه متواجد على مبعدة اشبارمن بيوتاتهم.
كانت زياراته تتسم بالادب والاحترام الجم وتقابل دائما من الوالد بمسحة عطف ابوي.
… كنت ارافقه في المرات القليلة التي رد بها بعضا من هذه الزيارات.
هنا اكتشفت حميدا آخر… حميدا كثير الابتسام، كثير التحاور، كثير الثقة كثير النشاط والحركة.
وتكرر لقائي بحميد في ظروف عديدة كان معظمها مع الجواهري… باحتفال به… حول موضوع يخصه او دفاعا عنه حين يستفرد بالشاعر المغترب ابدا، بمقولة او مقالة سب رخيصة… يستفرد به بجبن الاخساء ودوما تحت حماية سلطوية وايا كان موقع وزمان تلك السلطة… هجوم (الغيارى) هؤلاء يهوش به دائما عن بعد آمن!
ما الذي يريده حميد!؟… ما هي (الخدمة) التي يقدمها (مستضعف) مثلي يؤدي واجباته حتى الاعياء في زاوية الجرذان تلك من مستشفى عتيق نصف مهمل ؟!… واية خدمة تستعصي على من يشير، حتى ولو من على مبعدة، باصبعه فيستجاب ؟!… وما هو الموضوع الذي لا يكفي الحديث التلفوني لتبيانه ولا حتى الاشارة اليه ؟!… لا اعتقد ان نباهته تخونه في ان يكرر ما عجز عنه الاخرون في الاقناع والاستمالة، وبالتهديد المبطن او حتى العلني احيانا، عند فشل الاسلوبين الاولين ؟!
… حقا سيكون موقفا استغلاليا بشعا لقاء(خدمة) اتسمت بالتفهم وحب المساعدة لاخراج صديق قديم من محنته… لا لا اعتقد ذلك… على كل سنرى ما تخبئه الساعة القادمة.
… ساعتي تشير الى الثالثة.
يتبع
المصدر : جريدة إيلاف 2006 الأربعاء 13 ديسمبر www.elaph.com