قال لي وقد عرج عليّ (وأنا في منتصف الطريق إلى حيث أريد) … أأنت مسافر مثلي …؟
فقلت له : لا ! بل أنا شريد .
قال : وأين وجهتك الآن ؟
قلت : وجهتي أن أضع مطلع الشمس على جبيني وأغِذ في السير …
حتى إذا جنني الظلام في الليل أقمت حيث يُجنّني … وسرت عند طلوع الفجر.
قال : والليل ليل والنهار نهار منذ الأزل وحتى الأبد … أفأنت مجنون ؟؟…
قلت له : لا (كما أعتقد) … ولكن أأنت جاهل؟…
قال : وكيف ؟…
قلت له : لقد علمنا علم المكان وعلم الزمان من جديد أنك كلما أغذذت السير قُدماً قصر الليل وطال النهار …
حتى ليكادان يتحدان عند المنتهى.
ولقد كنتُ أجهل مثلك هذه الحقيقة طيلة ثلاثين عاماً كنت خلالها أهيم على وجهي وأتخبط في مجاهل الأرض (دون معالمها) إذ كنت لا أعلم من هذا العلم شيئاً .
قال : والآن ؟؟…
قلت : والآن … فمنذ سبعة عشر عاماً ، (وقد عرفت هذه القاعدة) وأنا أمشي الى الأمام على ضوء الشمس …
قال : وعندما تغيم ؟؟…
فقلت له : إنني لأفتح عيني أكثر لأعتاض بهما عن نور الشمس وقد أزيغ وأنحرف ! ويكلفني هذا تعباً يطول أو يقصر على قدر انحرافي … ولكنه ليس على كل حال أكثر من التعب في أن أعود وعلى ضوء الشمس من جديد ، ومن حيث ابتدأتُ .
قال : وماذا أكثر من التعب؟
قلت : أكثر منه ألاّ أتعب .
قال : أوَلا ترتجف من البرد؟؟
قلت : لا … فقد تعودته حتى لأكاد أرتجف من الحر.
قال : وماذا تأكل ؟؟…
قلت : لحوم الحيوانات السائبة فإن لم تكن تقوتُّ فقليل من لحمي …
قال : لحمك؟؟!!
قلت : أجل … ولماذا لا … واني لآكل من لحم أولادي أيضاً …
قال : آه … وعندك أولاد؟!!
قلت : بلى … وهم سبعة ومعي أيضاً في طريقي …
قال : وكيف يطيقون هذا العناء؟؟…
قلت : أحمل العاجز منهم على كتفي، وأدع رعاية الصغير للكبير منهم، وآكل من لحمهم وأطعمهم من لحمي … ومن مات منهم جوعاً ، أو تعباً ، تركته للكلاب …
قال : أوَلا يرتجفون مثلك من البرد؟؟…
قلت : بلى … يرتجفون … الآن … وسوف يتعودون ذلك غداً … فلا يرتجفون أبداً.
قال : أو لم تقدر أن تكسوهم ، وتطعمهم فيما تمر به على المدن، والقرى ، والناس؟؟…
قلت : أبداً…
قال : ولماذا؟؟
قلت : لأنهم يريدون لذلك ثمناً …
قال : أو تريده أنت بلا ثمن ؟؟
قلت : وكيف أريده بدونه …
قال : فلماذا ؟؟
قلت : لأنني أريد لهم ولي … أن أعمل ويعملوا … لنشبع ونكتسي …
قال : وهم ؟؟…
قلت : هم يريدونني أن أرقص…
قال : ترقص؟؟!!…
قلت : أجل ، ومثل القرود تماماً .
قال : ولماذا لا ترقص ؟ … ومثل القرود؟؟ …
قلت : لأنني لم أوهب سعة حيلة هذا الحيوان ، وصبره على المجاراة .
* * *
– ألك أخوة؟…
قال لي صديق الطريق … هذا !! … وقد صمت ورمق الأفق البعيد بعينيه .
قلت : أجل لي ثلاثة …
قال : وأين هم ؟؟
قلت : واحد تشرّد مثلي ، وآخر تخلف عني في المدينة ، وثالث أكلته الحيوانات !!…
قال : أو لك أمّ ؟؟…
قلت : وكيف لا ؟؟!!…
قال : وأين تركتها ؟
قلت : تركتها على قارعة الطريق ، وبيدها كتاب !، وإبريق !، ومبخرة !!…
قال : وما هذا ؟؟!!!!…
قلت : هذا من عقائدها …
قال : عقائدها ؟!!!
قلت : أجل من عقائدها … انها كلفتني أن أقبِّلَ الكتاب، وقد حملته باليمين، فقبّلتُه، ولكن … بعد أن أخذته منها بالشمال … وأرادت أن ترش الأرض من حولي بالماء، ومن أنبوبة الإبريق … فرشت به الأرض ، ولكن بعد أن رفعت الإبريق إلى فوق ومن فوهته !!…
قال : والمبخرة ؟
قلت : إني حطمتها … وإن والدتي لمتشائمة وحزينة من أجل ذلك.
قال : مفهوم أنها حزينة، ولكن لماذا هي متشائمة؟؟
قلت : لأنها تعتقد أنني لا أرجع اليها سالماً وقد حطمتها …
قال: وأين ولدتك أمُّك؟؟
قلت: على قارعة الطريق أيضاً …
قال : أكلّ شئ على قارعة الطريق ؟؟!!!!
قلت : أجل … إنها من المعتقدات بـ-أسطورة !! – “سيادة النور” و”عبودية الظلام” … وهي ترتجف رعباً من الليل، ولذلك فهي لا تضع حملها إلا على قارعة الطريق …
قال : وأبوك؟
فقلت له : إنه لا يشغل بالي من أمره أكثر من أنه كان يتحمل الألم ولكن بصمت ! بلا ثورة على الألم. وبلا تجديفٍ. وإنه كان يُغني ثم خاف فترك الميدان . وكل من هو على شاكلته من المغنين لا يشغل بالي من أمرهم شئ!
قال : ومتى عهدك بالمدينة وأهلها ؟
قلت : منذ تركتها ، أما عهدي بأهلها فمنذ أن تشاجرت مع حاكمها لكثرة ما يحملهم على الرقص كالقرود.
قال : وبعد ؟؟!
قلت : وبعد … فقد استمروا يرقصون حتى بعد أن طردني الحاكم شر الطرد من أجلهم… طردني أنا ومن معي…
قال : أفأنت حاقد عليهم من أجل ذلك؟؟!!
قلت : لا … أبداً … بل غاضب …
قال : أوَلا تريد أن تراهم ؟؟…
قلت : إن بريق الغضب في عينيّ ليصدني عن رؤيتهم …
* * *
قال لي عابر السبيل بعد برهة وجيزة استرحت خلالها من قال وقلت.
قال وقد فهمت أن عنده ما يخاله هو شيئاً جديداً – ان هناك – من ورائنا !! غابةً … وارفة الظلال كثيرة الأشجار ، ناضجة الثمار ، شاخبة الغدران ، … أفلا أدلك عليها فتستريح عندها … ولو بالرجوع خطوات؟؟
قلت له عابساً : أفأنت خارج منها ؟؟!!
قال : أجل.
قلت : أفأنت من أشباحها؟؟
فصمت ذاهلاً ! ولما أدركت أنه ليس منهم، وانّه مجرد عابر سبيل، انحدر اليها …
قلت له : لا … لا أبداً … فهل تريد أن أقص عليك أمري منها، وأدع لك أمرك وشأنك … على أن نفترق بعد الآن، لأنك حديث عهد بها، وبأرواحها، ولأنني لا أطمئن إليك من أجل هذا …
قال وقد رأيت الألم الصادق ! في عينيه : موافق…
قلت له : لقد مررت بغابتك هذه، بعد أن كنتُ قد انحرفت قليلاً أو كثيراً – لا أدري – عن شرع الطريق الذي كنت أريده، وكان الأمر في ذلك انني لقيت من على جانبي طريقي المنحرف أشباحاً وكأنها الأدلاءُ الى الطريق السويّ فتبعتهم – شاكراً!!!- حتى إذا توسطت الغابة استقبلتني من خلال أغصانها المتشابكة رؤوس كأنها طلع الشياطين، وأصوات كأنها حشرجة المحتضرين، وأطبق عليّ الظلامُ الذي أخافه .
ولا أنكرك …
انني كنت جائعاً ، وإن ثمرها كان شهياً.
وإنني كنت ظامئاً ، وإن ماءها كان عذباً سائغاً.
ولكنه ، مع هذا كله فقد أنستني حاسة الرعب والهلع من الظلام المسيطر عليها كل الحواس الأخرى.
فلقد أدركت يا صديق الطريق العابر من بادئ الأمر – بغريزتي – وليس بعقلي أن طريقاً يقف عليه الأدلاء ليّدلّوا المارة عليه ليس هو بالطريق القويم، فمثل هذا الطريق ما تسير أنت مدفوعاً على هداه…
ولقد علمت يا صديق الطريق العابر أن تلك الأشباح المبثوثة في طريقي إلى الغابة إنما هي من أرواحها !! وأن كل ما عوى عليّ من ذئابها!!!
وكل ما طلع علىّ من رؤوسها!!!
وكل ما أدمى قدميّ من أشواكها!!!
وكل ما حكّ جلدة رأسي من أغصانها وفروعها!!
كان جزءاً لا ينفك من أرواحها أيضاً.
وحتى تلك الحيوانات المتفرجة المسالمة فيها هي منها أيضاً.
وتلك الأشباح التي كانت تتسلل من خارج هذه الغابة فتتشابك مع ما في داخلها من أشباح وأرواح وكأنها تريد أن تتلاعب معها! أكثر من أن تتقاتل.
حتى تلك الأشباح التي كانت وكأنها تريد أن تدفع عنها كل البطر! وفتورَ الدلال! في معركتها هذه، آمنت أنها من سلالة أرواح الغابة ومن عناصرها!
ولقد ألفيت تلك الأرواح الشريرة ومن تابعها ترى ذلك الجنيّ الغضّ من الثمر العاجل في هذه الغابة، والماء العذبَ البارد خير العوض عن الظلام الرائن عليها!
وكنت أراه مجرد ثمرٍ عاجل. ومجرد سراب لامع.
وكانوا يضحكون مني. وكنت أضحك منهم!!
وعندما هز عابر السبيل هذا رأسه باستحباب كمن يريد زيادة في الحديث …
قلت له : ومن الغريب أنني كنت أحمد!!! في خطواتي الأولى الى هذه الغابة هؤلاء الأدلاء. وكنت لا أنفك أغني إلى جانب ذلك أغاني التمجيد لنور الشمس ، وكان هؤلاء الأدلاء أنفسهم – لاغيرهم – يهزون رؤوسهم وأذقانهم كالمؤمنين بما أغني.
والأغرب من كل هذا – يا صديق الطريق العابر – أنني حتى بعد أن وليت منهم ومن غابتهم فراراً…
كنت أغني بحماس أكثر … وأغاني أجود في تمجيد نور الشمس، وفي شجب عشاق الظلام… وكانوا – هم وليس غيرهم – أيضاً يهزون رؤوسهم وأذقانهم تأميناً على أغاني هذه … في حين كانوا يشيعونني معها بنظرات الأسف.
إنهم كانوا يفعلون ذلك وهم يقضمون من نبات تلك الغابة وأثمارها … ثمر الظلام الذي يعيشون فيه …
ثم يرمون ببعضها… أو ببقاياها الى من وراءهم وحواليهم من تلك الأرواح. وممن قصرت أيديهم أن تمتد الى أغصان أشجار الغابة.
ثم قلت: وقد انتهيت …
والآن فوداعاً يا صديق الطريق العابر …
قال: وداعاً يا أيها المغني لنور الشمس!!!
وداعاً أيها الشريد !!!
وكان هذا أخر عهد لي به، وأخر عهد له بي .
المصدر : ديوان الجواهري – الجزء الأول – منشورات وزارة الثقافة والإرشاد القومي/ دمشق – 1979م