* نشرت في جريدة "الرأي العام" العدد 1228 في 16 آذار 1945 وقدمتها بـ :
"القطعة الشعرية التي القاها صاحب هذه الجريدة في الحفلة التي أقامها لتكريمه المجمع الثقافي في يافا ، الذي يمثل عدة نواد ثقافية وأدبية ، وحاول فيها – ما استطاع – أن يعبر عن احساساته المختلطة تجاه سحر البلد الجميل ، واهلية الأطايب ، والسدود المضروبة بين الأقاليم المفرقة صنعاً والموحدة طبعاً" .
ب "يافا" يومَ حُطَّ بها الرِكابُ
![]() تَمَطَّرَ عارِضٌ ودجا سَحابُ
![]() ولفَّ الغادةَ الحسناءَ ليلٌ
![]() مُريبُ الخطوِ ليسَ به شِهاب
![]() وأوسعَها الرَذاذُ السَحُّ لَثْماً
![]() فَفيها مِنْ تحرُّشِهِ اضطِراب (1)
![]() و "يافا" والغُيومُ تَطوفُ فيها
![]() كحالِمةٍ يُجلِّلُها اكتئاب
![]() وعاريةُ المحاسن مُغرياتٍ
![]() بكفِّ الغَيمِ خِيطَ لها ثياب
![]() كأنَّ الجوَّ بين الشمسِ تُزْهَى
![]() وبينَ الشمسِ غطَّاها نِقاب
![]() فؤادٌ عامِرُ الإيمانِ هاجَتْ
![]() وسوِسُه فخامَرَهُ ارتياب
![]() وقفتُ مُوزَّعَ النَّظَراتِ فيها
![]() لِطَرفي في مغَانيها انْسياب
![]() وموجُ البحرِ يَغسِلُ أخْمَصَيْها
![]() وبالأنواءِ تغتسلُ القِباب
![]() وبيّاراتُها ضَربَتْ نِطاقاً
![]() يُخطِّطُها . كما رُسمَ الكتاب (2)
![]() فقلتُ وقد أُخذتُ بسِحر "يافا"
![]() واترابٍ ليافا تُستطاب
![]() "فلسطينٌ" ونعمَ الأمُ ، هذي
![]() بَناتُكِ كلُها خوْدٌ كَعاب (3)
![]() * * *
![]() أقَّلتني من الزوراءِ رِيحٌ
![]() إلى "يافا " وحلَّقَ بي عُقاب
![]() فيالَكَ "طائراً" مَرِحاً عليه
![]() طيورُ الجوِّ من حَنَقٍ غِضاب
![]() كأنَّ الشوقَ يَدفَعُهُ فيذكي
![]() جوانِحَهِ من النجم اقتراب
![]() ركبِناهُ لِيُبلِغَنا سحاباً
![]() فجاوزَه ، لِيبلُغَنا السّحاب
![]() أرانا كيف يَهفو النجمُ حُبَّاً
![]() وكيفَ يُغازِلُ الشمسَ الَّضَباب
![]() وكيفَ الجوُّ يُرقِصُهُ سَناها
![]() إذا خَطرتْ ويُسكِره اللُعاب
![]() فما هيَ غيرُ خاطرةٍ وأُخرى
![]() وإلاّ وَثْبةٌ ثُمَّ انصِباب
![]() وإلاّ غفوةٌ مسَّتْ جُفوناً
![]() بأجوازِ السماءِ لها انجِذاب
![]() وإلاّ صحوةٌ حتّى تمطَّتْ
![]() قوادِمُها ، كما انتفَضَ الغُراب
![]() * * *
![]() ولمّا طبَّقَ الأرَجُ الثنايا
![]() وفُتِّح مِنْ جِنانِ الخُلدِ باب
![]() ولاحَ " اللُّدُّ " مُنبسِطاً عليهِ
![]() مِن الزَهَراتِ يانِعةً خِضاب (3)
![]() نظْرتُ بمُقلةٍ غطَّى عليها
![]() مِن الدمعِ الضليلِ بها حِجاب
![]() وقلتُ وما أُحيرُ سوى عِتابٍ
![]() ولستُ بعارفٍ لِمَنِ العتاب (4)
![]() أحقَّاً بينَنا اختلَفَتْ حُدودٌ
![]() وما اختَلفَ الطريقُ ولا التراب
![]() ولا افترقَتْ وجوهٌ عن وجوهٍ
![]() ولا الضّادُ الفصيحُ ولا الكِتاب
![]() * * *
![]() فيا داري إذا ضاقَت ديارٌ
![]() ويا صَحبيْ إذا قلَّ الصِحاب
![]() ويا مُتسابقِينَ إلى احتِضاني
![]() شَفيعي عِندَهم أدبٌ لُباب
![]() ويا غُرَّ السجايا لم يَمُنُوا
![]() بما لَطُفوا عليَّ ولم يُحابوا
![]() ثِقوا أنّا تُوَحَّدُنا همومٌ
![]() مُشارِكةٌ ويجمعُنا مُصاب
![]() تَشِعُّ كريمةً في كل طَرفٍ
![]() عراقيٍّ طيوفُكُم العِذاب
![]() وسائلةٌ دَماً في كلِّ قلبٍ
![]() عراقيٍّ جُروحُكم الرِغاب (5)
![]() يُزَكينا من الماضي تُراثٌ
![]() وفي مُستَقْبَلٍ جَذِلٍ نِصاب
![]() قَوافِيَّ التي ذوَّبتُ قامَتْ
![]() بِعُذري . إنّها قلبٌ مُذاب
![]() وما ضاقَ القريضُ به ستمحو
![]() عواثِرَهُ صُدورُكم الرّحاب
![]() لئنْ حُمَّ الوَداعُ فضِقتُ ذَرعاً
![]() به ، واشتفَّ مُهجتيَ الذَّهاب
![]() فمِنْ أهلي إلى أهلي رجوعٌ
![]() وعنْ وطَني إلى وطني إياب
![]() |
(1) الرذاذ : المطر الضعيف في أول نزوله .والسح مصدر أقيم مقام الصفة وهو بمعنى المنصب والمنسكب .
(2) “البيارات” : هي مغارس البرتقال عند أهل فلسطين .
(3) اللد : من ضواحي يافا .
(4) لا أحير أي لا أجد كلاماً وماضيه أحار .
(5) الرغاب : الواسعة .
المصدر : ديوان الجواهري-الجزء الثالث-وزارة الاعلام العراقية/مديرية الثقافة العامة-مطبعة الأديب البغدادية 1974م