الجواهري المنسي.. وهل تطيق وداعاً أيها الرجل؟ (1-2)
– شاعر طالع من وسط الحشد سائر في الوجد وحده – محمد الجزائري.
نفرش له الأرض ذهباً ولكن لن يكفي، هو الذي ذهب وحده سائراً قدماً وسط الحشد!..
شاعر يجري علي طرف اللسان فؤاده، هو والعراق صنوان، هو القائل: أنا العراق، لساني قلبه ودمي فراته، وكياني منه أشطار … وما غادر طلباً لرفاه، فلو أراد (مسح الجوغ) لنال من (ضرع دجلة) ما يفيض ويغني:
دمشق لم يأت بي عيش أضيق به
فضرع (دجلة) لو مسحتُ درارُ
وثم لولا ضـــمير عاصم حفر
للمغريات، و(للبترول) آبــارُ
لو شـــئتُ كافأ مثقالاً أصرفه
شعراً من الذهب الابريز قنطارُ
لولا رسـالة حق قد يحيق بها
حتي من المدعين الحق.. انكارُ
يا سادتي إن بعض العتب منبهة
لغافلين وبعض الشـعر إشعارُ
أنا العراق لسـاني قلبه ودمي
فراته و كياتي منه أشــطار
فالشاعر الغضبان أعذر ما تكون غضابه، الموجعات حسانه، والمبكيات عذابه، قلبه وشعره سالا من هذا وذاك!.. فهل ينسي الجواهري؟
وإن رحل (يوم الأحد 1997/7/27م المصادف 23 ربيع الأول 1417 هـ).. فقد ظل حياً! (تسعون) عاماً توجت أشعاره هام العراق، وكللته بغاره، وإن بدأ النشر وهو أصغر المجيدين سناً والأكبر نفساً! دفن (غريب الدار) في مقبرة (الغرباء)، كأن لم يكن له (بيت يلوذ بسقفه) أو (سائل عنه وعن أخباره) ــ كما قال عن نفسه مرة ــ وكان (دين الهوي) لشعبه بيعة في عنقه، ولاشك سيظل شبعه علي هواه (مقيم)!
هل ينسي؟ أو هل تنسي (آثاره) وهو (حضارة) الكلمة في الشعر، لخصتها (مسلة) حياته قرناً كاملاً أو كاد، من الأحداث والأحداث، السوانح والبوارح، المسارح والمطارح، البلايا والرزايا، المنايا والنوايا، فـ(الآثار) كلما رممت وجلوتها عاشت أبعد وأعمق.. ويظل عظيمها باق حتي لو (عمره) الحاسدون الكارهون بالتناسي و(عمدوه) بالصمت!
والشعر مثل أي أثر خالد، قد ينام في سرير التاريخ، وقد يصبح محض (وثيقة عصر)، لكنه في الاستثمار البشري وجدانياً، يشع ويزدهي!، ففي كل استعادة وفحص ودرس، له عبرة، وله مجده، في التحريض والتلهيب، أو في التطريب والتفريج والتفريح، أو في النواح أيضاً!
وهكذا صار الجواهري (صناجة) الشعر وصوته طيلة ما يقارب عمره، ويمتد! و(الحكمة) ــ مثل الأثر، أيضاً، لا قيمة لها إن لم تر بمقلة الحاضر ــ و(المثل)، حياتهما في التداول، كذلك (اللغة) قد تصبح (أثراً) معجمياً، لكنها تكتسب حيويتها وتتجسد حين الاستعمال في المكان والزمان والغرض والوظيفة، فان توارت في المعاجم، نسيت، وان ظل في قلبها نبض، وفي جوهرها معني، وفي حنايا صمتها تأويل وكناية .
الشاعر، مثل العاشق، وحده يسمع صمت صوته، حتي لو نأي أو دثرت جسده أتربة الثري وغمرته!
الآن.. (الزقاقيون) نائمون، و(السمائيون) الناظرون إلي النجوم، يحلمون بالقدر!
و(ذو العقيدة مشتوم ومتهم!)
و(ذو المواهب محروم ومضطهد!)
والصدور (لا تتنفس الصعداء..!)
فمَن يمنع الانسان ان (يتنفس حرية)، سوي مَن يسد عليه المنافذ؟ الجواهري الطالع من وسط الحشد، السائر وحده علي حافة الوجد: (طريق كل مناضل وعر)، فسجل.. ان التاريخ يبدأ ويكون بالشهيد، ولذا، بيومه وبالنضال: (تؤرخ الأعوام)، وعرف باكراً أن (يوم الأجمعين غداً).. فأتي ذلك اليوم، ثم غيبته الانقلابات السود، وسيأتي غيره أكيد، فالشعب وشعره، (حتف الطغاة).. (باق) وأعمارهم قصار! ودائماً يستعاد الخالدون، مرات بسوء الظن، ومرات بحسنه! فالخامل لا يستعاد ولا يستذكر، والعظيم من اختلف الناس به أو عليه! في (مجلس) عالم فيزياء عراقي نبيه وشغوف بعلم الجمال والموسيقي وأشعار الجواهري، ضمتنا ونخبة أحبة، أوطانهم حلم، افتتح شيخ مجادل (ندوة الأنس) بسؤال الظن: (أظن أن الجواهري سيُنسي، ربما بعد آونة، فهل أنتم معي في ذلك ؟). مبرراً (خلو) شعره من الحكمة المستديمة، وأنه (محض) شعر (حدث) و(الحدث) وليد ظرفه.. وقد ينسي اذ تتابع الأحداث وتتغير الأزمنة.. وقد يبقي في ذاكرة الزمن، حسب!
هل ينسي؟
وتصاخبت ردود الفعل علي قولته، فهذه البئر (النسيان)، جعلتنا ندفع (التهمة)، لا عن الجواهري وشعره، حسب، بل أيضاً، عن الشعر بعامة:
اذا كان (الشارع) يحفظ للشعراء ما يفولذ ايمانه بيومه وغده، لذا ردد الناس: (أنا حتفهم) وما نسوا المناسبة، وتشبثوا بالحافزية: فالشعر يحرض علي الطغاة (.. ألج البيوت وراءهم!)، ربما أيضاً أدرك الشارع بعد حين أن (يوم) الطغاة طويل وليس قصيراً، كما تفاءل الشاعر! و(الشاعر) ذاته يستحضر، كلما ضامه ضيم:
(اذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر) (الشابي)
ينظر إلي الكفاح (قدراً) يومياً للمناضلين، وان تعددت الوسائل وتغيرت المواجهات.. وهكذا (يقتحم).. (تقحم لعنت أزيز الرصاص)، وهو ما نشاهده يومياً في فلسطين المحتلة وعديد الشعوب بالفعل!
حين غاب (جعفر) شقيق الشاعر، شهيداً، بعد أيام من اصابته في معركة الجسر، ابان وثبة كانون 1948، رثاه الشاعر في الحفل التأبيني الذي أقيم في جامع (الحيدر خانة) وقد خنقته العبرة وهو يستهل:
أخي جـعفر يا رواء الربيع
إلي غـفـن بـارد يُسـلمُ
ويا زهرة من رياض الخلود
تغوَلـهـا عاصـف مرزمُ
فصارت (أخي جعفر) تميمة الشهداء!
هذا الشاعر الذي أدرك أن ليالينا (عجيبات)، مخاطباً (أم عوف)، (يبعدن أهواءنا القصوي ويدنينا)، فالليالي تلك (العجيبات)(في كل يوم بلا وعي ولا سبب
يُنزلن ناساً علي حكم ويعلينا) في ان المقاومة الفلسطينية وحماسة العرب، كان (الشارع) ـ أيضاً ـ حميماً مع (توفيق زياد)، لأن شعره يلهب اليد والقلب تماماً مثل قصيدة (شاعر الشعب) محمد صالح بحر العلوم في آن زمانها: (أين حقي؟)، التي كانت سؤال الجمع كله والشعب كله! كذلك فعل محمود درويش وسميح القاسم وعديد شعراء فلسطين المحتلة، حين صدحت أشعارهم ــ وهم في الداخل ــ بما يوازي اندفاعه الاطلاقة التي لا تخطئ الهدف، والبندقية ساخنة الماسورة ! حين تأتي المقارنة بين شعر الجواهري ونتاج الخمسة الشعراء من بلاد فارس: (فردوسي، حافظ، سعدي، الخيام وناصر خسرو) الذين احترمتهم شعوبهم وحكومات بلادهم وزينت شوارعها الرئيسة باسمائهم، وترجمت أعمالهم الكاملة في طبعات أنيقة ومجلدة وإلي لغات عدة، وروجت تسويقها لتستديم في الذاكرة، (لا يمكن ــ هنا ــ اغفال ان ديوان الجواهري طبع بطبعات عدة في النجف وبغداد وبيروت ودمشق والقاهرة..طيلة سنوات عمره (المئوي)، وزيد عليها مختارات من (عيون شعره) سجلها في شريط (فيديو ــ كاسيت)، عززها الجزءان الضخمان من سيرته (ذكرياتي)، وما نشرته له المجلات من حوارات استذكارية عن حياته وشعره (مجلة المجلة ــ لندن) مذ كان، بعد، مقيماً في (براغ).. وقبل أن يتخذ دمشق ملاذاً أخيراً حتي وفاته فيها!).
وإذا كان من أشكال (النسيان) ــ بحسب الشيخ المجادل ــ أن شعر الجواهري (لم يغن) إلا بحدود ضيقة: قصيدته (يا سيدي أسعف فمي) التي غنتها التونسية صوفيا صادق، و(يا دجلة الخير) التي تناوب علي غنائها: جعفر حسن من ألحانه، وفؤاد سالم من ألحان طالب غالي، وبلقيس فالح من ألحان سالم حسين وتوزيع جعفر الخفاف، وإن لم تأخذ مداها المطلوب في الاتساع والانتشار، بما يوازي رفعتها وحساسية موضوعها، فالغناء الموثق هو ما يتبقي في ذاكرة الدرس والمتابعة والتزامن، كما جاء به أبو الفرج الاصفهاني في كتابه الأثير (الأغاني)، الذي صار وثيقة لقراءة تاريخ الغناء العربي وأحوال المجتمع والمغنين والقيان منذ العصر الأموي صعوداً، ليظل حتي هذا السفر المهم طي النسيان إن لم يقرأ في كل عصر، ويدرك ما في متنه!.. لأننا طالما استمعنا إلي اغنية من التراث ولم نعلم عن صائغ كلماتها إلا بعد التحري، فالاغنية ــ عندنا ـ بالمغني! فهل ينسي الجواهري؟!
هل ينسي؟.. لأن شعره (يخلو من الجمالية) ــ كما أشار عالم الفيزياء؟ ــ مقارناً شعر الجواهري بشعر أحمد شوقي، معتبراً شعر شوقي أصلح للغناء لانه أكثر جمالية من شعر الجواهري،.. لذا لا ينسي! غير متجاهل انه بالذات (يحفظ) للجواهري أكثر شعره، وان يستمتع بجماليات شعر شوقي أكثر، فهو حر في ذائقته وميول قراءته، لكن أحمد شوقي هو ابن مصر الغناء وعلمها، وقد كرس صالونه وصوت محمد عبد الوهاب، الفتي الذهبي آنذاك، لخدمة نصوصه، وهو (الباشا)، الذي له ما له من سطوة ونفوذ وتأثير مباشر، في حين ظل الجواهري، حتي رحيله إلي أبديته، مناضلاً مطارداً ومطروداً أو منفياً باختيار هو أحسن الأسوأين! فالجواهري لم تصنعه الدول ولا الأحزاب أو المؤسسات، ولم تسوق شعره، ولم تدعمه، إلا حين يتطابق معها في الشروط، أو يهادنها، أو يسير ومشاربها وآنوية مصالحها، وشخصياً هو لم يبرمج شعره وسيلة للتكسب أو حتي الانتشار غناء، ولولا تحرك بعض أهله وأسرته لما صدرت (عيون شعره) في (كاسيت)، أو (ذكرياته) في كتاب!.. لقد ظل الجواهري قامة نفسه، ولم يأبه لمسألة الخلود تالياً، ولم (يستثمر) كنوزه كما يقتضي (فن) التسويق و(علمه)، إلا في حدود (البحبوحة) التي أتاحتها له حالة (الاستقرار والتكريم) في سوريا.
ولنا في شاعرنا الآخر مظفر النواب، المثال الأعلن، بخاصة وهو يغني اشعاره بنفسه، حتي صار شعره مقترناً بالغناء، أو بغنائية الصور، وثراء جمالياتها، ولكن لم يسوق شعراً ولا غناء، كما تفعل أكثر شركات الانتاج الغنائي تواضعاً مع أصغر مطربيها (الصاعدين)!.. كذلك الحال مع (سعدي الحديثي) برغم (فطنته) التسويقية!
لقد عاش الشعراء الملتزمون بقضية شعبهم هذا (الخجل) التجاري والاعلامي، بخاصة أولئك الذين حافظوا علي تقاليد العمل السياسي وسلوكياته واخلاقياته وحالة نكران الذات، كما تعلموها في صلب النضال اليومي، ولم تشوههم المتغيرات السلبية النفعية، التي تعتبرها (الآيديولوجية) الغربية (الناعمة)، سمة عصر القطب الأوحد والعولمة والركض البشري الجماعي وراء (الخبر الحافي)، حيث الآن لا نجاح إلا وخلفه جهة داعمة وممول!
الأحداث تأتي وتروح، صحيح، لكن شعر الجواهري يبقي ـ كما ظل شعر المتنبي ـ فالاثنان الراحلان ارتبطت قصائدهما بأحداث وأشخاص، لكنهما يظلان في الذكري والتذكير .
الغناء اعلام للشاعر :
وصحيح أن (الغناء) اعلام للشاعر ولنصه، لذا قد تصلح له قصائد ابن زيدون أو الموشحات أكثر من شعر المتنبي والجواهري وأبي فراس الحمداني في أغلبه، فذلك لن يثلم من قامة شعرهم. والأحداث حافزية للشاعر ومحفز، يدعمها الالهام والموهبة وحسياسية الاستجابة، فهي خاطر الشاعر ومثاله، بخاصة اذا ارتبط بقضية وشعب ورؤي، إذ يتبدي (الموقف) عبر الشعر، وأساساً عبر (احدث) الساخن الذي مول الشعر بالأفكار والصور، وفي ذلك يستوي الجواهري ونزار قباني والبياتي والسياب ومظفر النواب وبلند الحيدري ومصطفي جمال الدين.. الخ، وان تفاوتوا اسلوباً وتناولاً وزوايا نظر، وصياغات. إن (الصفنات) أو (التأملات)، تدفع بثقافة الشاعر وحافظته للتجلي في (حكميات) ربما، مع أن هذا غير مؤكد أو دائم، لكن ما يجعلها مستثيرة ومستثارة، هو قوة فاعليتها وعنفوانها واستنطاقها للحدث، وتأثيرها علي متلقيه. في عصر (الرومانسية) و(الحب الصافي) تجلت (الطبيعة) في الأشعار، لقد فعلا حساسية الشاعر وألهماه، وأرهفا ثقافته لينتج ما أنتج من رومانس،.. فلا شعر بلا مخاض مطلقاً، وأيضاً لا شعر بلا حكمة!.. وإن تجلت خلل الصورة وجماليات المكان أو الروح، كما عند مظفر النواب والسياب والبياتي، أو كما عند شوقي أيضاً، فالشعراء، حكماء بالضرورة، ومغامرون حالمون، ومرات، نزقون مشاكسون في آن!
لذا فان احترام (الهوية) و(الابداع) و(الذات المبدعة) لا يلقي الشاعر ولا شعره في بئر النسيان أبداً، فهناك شعراء عرفوا بأبيات، أو بقصيدة واحدة وظلوا عندها ــ كذاكرة جمعية ــ حتي قيل عنهم: (شعراء الواحدة). وآخرون وسعوا في مجال شهرتهم وانتاجهم ودراستهم (الحداثة والتحديث) ــ كما هو الحال لرواد الشعر العربي الحديث: (السياب ونازك الملائكة والبياتي) ومن حف بمحفتهم، أو سبقهم أو زاملهم أو زامنهم: (محمد البريكان، بلند الحيدري، حسين مردان..).
الآن.. السياب أو البياتي ليسا موضع درس فقط، بل هما مؤثران في نسيج النص الحداثي الشعري وبنيته.
لقد فتح الرواد أبواب الحداثة، وعلي الدرب أشاعوا لآخرين حرية الرؤية والرؤي والاضافة والاجتهاد، فأبدعوا نصهم الجديد أيضاً. ان (الحدث) يمتد في النص، ويكتسب (تاريخية) أخري في (المكتوب/ المدون)، وعند تشبعه بـ(انساغ) أزمنة وأحداث (أخري) وأشخاص وخواطر وحالات تعمر شجرته، وتزهر أوراقه، لتشكل ثماره (أنساقاً) في المبني والمعني الجديدين!
اذاً.. من (النسغ) إلي (النسق)، الحدث خلق نظامه واستمر! في تسعينيات العراق ومطلع ألفيته الثالثة، نشأ (جيل) من الشباب تعمد بالقصيدة الجواهرية (الكلاسيكية الحديثة) وأعلنوا صوتهم في (بيان) وعلي أكثر من منبر، بعضهم من مهن علمية (أطباء، مهندسون.. الخ) لكنهم اجتمعوا علي هذا (النسق) وقدموه بأفكارهم أيامهم وأحوالهم، واعترفوا بان الجواهري هو ربانهم ومعلمهم. هؤلاء رفضوا تكريس قصائدهم لما هو (رسمي) فاطلقوا اجنحتها للتحليق الحر، تماماً كما هو شأن جيل (الثمنتسعينيات)، أبناء برج الحرب، الذين انتجوا نص (وعي الضد) المفتوح!
لم ينته، اذاً، أثر الجواهري وتأثيره، وان رحل حاملاً ارث القرن الماضي ومحملا قصائده سخونة الاحداث والحالات الانسانية، (الليالي) الغريبات الحالكات، وأيضاً النهارات الملأي بالأشواق للوطن والغد الأروع ولدجلة الخير (أم البساتين)، وأيضاً كما لم ينته اثر السياب والبياتي في النص الحديث، وفي الحلم والتغيير والوطن الأجمل، حتي في حلكة القسوة والأذي والعسف المعتق! تساءلنا: ماذا ظل من قصيدة (براءة) التي ألقاها مظفر النواب أمام حشد من المعتقلين في (الموقف العام) ممن جري التحقيق معهم أو ممن لم يمتحنوا بعد، والتي احتج عليها، توقيتاً وتوجهاً، (الشيخ المجادل)، لأن جميع المعتقلين، في ظنه، هم ضحايا الأنظمة القمعية وليسوا خونة!
وان مهمة الشاعر ليس الردع أو القمع، ولا يجوز له أن ينصب نفسه قاضياً، في الأحوال جميعاً.
لكن القصيدة (ردعت) ـ كحصيلة ـ وساعدت الذين كانوا علي وشك الانهيار علي التماسك أكثر، وبأن يستعينوا بصدق قلوبهم وحصافة نبلهم وعمق حيائهم، ازاء ما تعهدوا به من أمانة وصيانة للمواثيق وقسم!
كان ذلك (النص) مراً، من دون شك، انه (مقالة) في (موقف) أكثر منه (عملاً شعرياً فنياً)، كما هو نسق قصائد مظفر الهجائية! كما أهمل الجواهري، من قبل مثلاً، قصيدته: (ته يا ربيع)، وندم عليها تماماً، فهل يحق لأي كان مقاضاة المبدع سوي ضميره؟!
لذا لا يجوز التخوين، وأيضاً لا يجوز الاستقواء!
لا ملامة ولا ندم! ما دام الشاعر يصحح من مساره، ويظل مع شعبه في الهم والحلم!
وإلا لشطبنا علي شاعر كبير لأنه نشر يوماً قصيدة (ندم)، حين كان وزوجته تحت طائلة الاعتقال، أو لما (سامح) شعبنا أولئك المبدعين الذين تعرضوا للأذي الجسدي أو النفسي أو الأخلاقي حين كانوا تحت (رحمة!) الجلادين، طيلة العهود الدموية السود، وفي آننا الشرس الدامي!
الجواهري أحب شعبه بفصائله الوطنية وقومياته وطوائفه، وحلم كما يحلم الطيبون بعراق ديمقراطي مدني يتسع للجميع، واحترم، كما هو شأن أغلب المثقفين، الرؤي والخيارات الفكرية والسياسية للقوي الخيرة كلها، ما دامت تصب في الهدف الواحد: حرية الوطن وديمقراطية الشعب وأمن الانسان ورفاهه!
تلك هي حقيقة غدنا، والحقيقة تحررنا، هذا أكيد!
إذاً.. لا تخوين تحت أي مبرر، إن لم يكن (الشخص) أو (الموقف) في الخندق المعادي!
في زمن الحماسة والشباب، كان (الشيخ المجادل) يحفظ المئتين ونيفاً من أبيات قصيدة واحدة للجواهري، مثلما انكب علي حفظ قصيدته عن حصار (ستالينغراد)، (التي خطت بماء الذهب علي النصب التذكاري للمدينة وشهدائها) ــ كما يذكر ذلك بمباهاة وفخر ــ كأنه يحفظ كتاباً مقدساً، أو كما يحفظ أبناء (السوفيت) آنذاك اعمال مبدعيهم مثابة مقدسات، تعويضاً عن غياب (الديني) في الايديولوجية الماركسية ــ اللينينية، لكن بعد (رحيل) هالة ستالين (راحت) هالة القصيدة، ومعها كانت بداية انهيار ليس (الستار الحديدي) وحده الذي شاده ذلك الزعيم الجبار، انما أيضاً، ذلك البناء الشامخ للدول والحزب عبر سبعين سنة من التضحيات والحروب الساخنة والباردة أيضاً!
والآن، يقرأ ذلك التاريخ بوعي عصرنا ووعي متغيراته وتداعياته السريعة، ويطال ذلك حتماً بعض تاريخ الشاعر وشعره وعصره، لا مناص، فلكل عمر قراءة، ولكل زمان وعي، ونظر، ونظرة!
لماذا نؤلف الكتب عن الشعر وعن التاريخ لو كان (مخ) الانسان يستوعب كل ما تراه العين وما تسمعه الاذن؟
(النسيان)، جزء من الالغاء الفيزيولوجي ــ التقني في المتراكم من المعلومات، تماماً كما (ملفات) الحاسوب واعقد!
لذا صار النسيان (نعمة!)، فلو تجمعت كوارث البشر واختزنها العقل دفعة واحدة، لانفجرت عقول البشر جميعاً، فالمخ يمحو ما لا يريد ويحتفظ بالبقية، ليترك متسعاً للجديد، وأكيد يفعل الزمن وتفعل التجربة الحياتية الذاتية والخبرة السياسية والثقافية فعلهما في الازاحة والاقصاء، تماماً كما تفعل في صقل المعرفة ووضوح الرؤية وتعميق الرؤي..
الآن.. تحول عديد البشر عن البحث في الواقع ومعطياته وحلوله، إلي (القدر)، لأن اليأس طالهم وغلق عليهم أبواب التمني والاحتمالات، بقدر ما طالتهم الخسائر والاخفاقات والكوارث والخذلانات، في حين ظل بعضهم مؤمناً بـ(المقدر والمكتوب) منذ الأزل!.
صار الناس مهددين بقوت يومهم، ولا مغيث، ولا استقراء لافق أبيض آت، فالمجاعات في تزايد وخط الفقر نامت تحته (جياع) الشعوب ولا من (حارس) لآلهة الطعام أو الأمان..!
والشعر أين الحالة!
وما زالت نظرية (الانعكاس) تشتغل، وما زال (النقض والنقيض) قانوناً ثابتاً في (ديالكتيك) الحياة، لكننا لا نقف عند (القوانين) الطبيعية والوضعية كلها، وقفة (صنمية)، لأن بعضها شاخ وهرم!، فنغيرها، ولم نستطيع بكل أسي الثورات المجهضة، لصالح أيامنا أو غدنا، لكن المسعي الحثيث يبقي صنو النضال اليومي والرجاء..
كذلك تتغير الذائقة، وتتغير الرؤي والطباع وعادات التلقي، كما تتغير، بالتأكيد، (المصالح) و(الحسابات) و(التكتيك)!
نعم الحقيقة تغيرنا.. لكن (أين) هي كي نمسك بها تماماً، أو نتفق عليها تماماً (شكلاً ومضموناً وأبعاد)؟!
والجواهري (حقيقة) قرن شعري وسياسي، لا خلاف، وشعره نبع من تلك الغليانات والبراكين والحرائق، وأيضاً من تلك الملذات وسلام النفس، وان لم يطل، لكنه من العناية والوضوح بحيث تؤرخ به الأحداث، فهل نلغيه كله لأن القرن انحسر؟ وهل نلغي عاطفته ورؤاه وشدوه وشجنه؟
اذاً، لابد أن نلغي (غوته) و(شيلي) و(ايلوار) و(ناظم حكمت) و(أراغون) و(شكسبير) والقائمة تطول!.. كما (نلغي) شعراء (المعلقات) كلهم لأن الأيام نأت عنهم؟
مهما كان القرن العشرون رديئاً ــ من وجهة نظر المستضعفين والمضطهدين والمحبوسين في نير استعماره وظلمه وظلامه، فانه أيضاً قرن ثورات التحرر الوطني، أفراحها وخيباتها، قرن السرور الصعب، والآمال العظام، الموؤودة!.. ولكنه أيضاً قرن المكتشفات ورحابة العلم والتكنولوجيا (السلمية والتدميرية)، قرن التناقضات الحادة والمخاتلات الكبيرة، احتلال العقل وغزو القمر، والفضاء والشعوب، ونهب ثرواتها وحرياتها، مع ذلك ظلت أحداث القرن الماضي، كما القرون السالفة، في الذاكرة والتدوين والتوثيق، بدءاً من الحروب الكونية وانتهاء بخدعة حرب النجوم و(مآثر) الحرب الباردة!
ارث وتراث :
من هنا، ما زلنا مخدوعين بالأمل! وما زلنا في الوقت نفسه نعيد قراءة (كلكامش) بشيء من الزهو، والشعر السومري بكثير من المتعة، ليس لأنه وسواه من إرث وتراث، نتاج رؤي كتابة، ومخيلات، لكن أيضاً، لأنه عجينة فلسفات أزمنة وعقول، و(حكمة) دهور تأمل في المشاهد والأخيلة والأفكار والمرويات، وليس فقط في (الأمثال) و(التعازيم) و(النصوص) المعوذات!
وأيضاً لانه (نحن) اذ نستقوي به ونفاخر، كوننا شعب يمتلك مرجعياته التي لا تضاهي في النتاج الانساني!.. لأننا نعوض بذلك كله عن حاضرنا المهزوم والهش، المخاتل، والمتخلف!
كما يلوذ بعضنا بالسماء لطلب النجدة، أو بالكتب المقدسة لأنها عناء الأسئلة الوجودية والكونية معاً، وتعفيه من قلقها، اذا لا تأويل في (المقدس)، نلوذ، أحياناً، بالشعر!
ولكون نصوص الماضي مرنة، بقدر ما فيها أيضاً من فلسفة وحكمة، تريح وتطمئن:
إذا وعدت.. فأعط
وإذا آثرت الثقة، استمر في منحها..
واذا اكتسبت ثقة رفيق، ابق له أميناً في ما تعلمته
وانظر، ما هو اللوح …..
(حكم بابلية) مجتزأة من تراث ضخم وعظيم، نجد ظلالها في كتب الأولين، وفي ديانات عدة، كما لاحظناها في الكتب المقدسة تالياً وكما نجد (الحكمة) النابعة من الصور، أو الحوار، أو السرد، أو تصوير الحدث وتوصيفه، كأنها الأبقي، لأنها تنطوي علي جماليات النص وروحه، التي يجتاز بها الفواصل والأزمنة والحالات، فهي الأبقي بجوهره، وليس في (التابو) وجبريته!
فهل (يحفظ) الايرانيون كلهم ــ مثلاً ــ شعر فردوسي والخيام وحافظ وسعدي وناصر خسرو؟!
فهل (يحافظون) عليه ليستعيدونه في المتعة أو الدرس أو الاستشهاد؟
وأكيد لا (يحفظ) العراقيون كلهم، أيضاً، أشعار الزهاوي والرصافي والشبيبي والشرقي والجواهري أيضاً، كذلك لا يحفظون الشعر السومري أو البابلي بعامة، لكنهم يتصلون به في القراءة القصيرة أو الوظيفية أو احتراماً ومتعة معرفة، وتواصلاً تاريخياً، لأنه الناشط الانساني الدائم لذاكرتهم الوطنية وهويتهم، تماماً كما يتواصلون في قراءة (تاريخ) الطبري و(معجم البلدان) وابن الأثير، قراءة معاصرة، ان ارادوا الاستزادة من المعلومات ــ مثلاً عن (ثورة الزنج) أو (ابن قرمط) وحركته الطليعية..
ليس مطلوباً من الشعب أن (يلقن) نصوصه، لا من خابية الماضي، ولا من ذخيرة الحاضر ومحمولاته، بل أن يحتفظ بها ويعيد قراءتها في كل مرة برؤية متجددة، كي تتمرأي معه، ويتملي بها عند الضرورة.
الجواهري لم يقدم (حكمته) فقط، لكن احتفظ بقابليته لقراءة السلف، وحفظه أيضاً ترسانة لشعريته، ونبعاً يغترف منه ماء شعره! لذا بزغت براعته في الحفظ لخمسين وأربع مائة بيت من الشعر (في ثماني ساعات) فقط، بدلاً عن ضغط والده عليه لحفظ علوم الدين: كان أبي يمارس عليّ ضغطاً مستمراً لحفظ علوم الدين، وأتظاهر مؤمناً بتنفيذ الأمر، وما أن يخرج هو وأخي الأكبر، حتي أهرب إلي دواوين الشعر (الطريق، تشرين الأول (اكتوبر) 1970، ص67).
وكما يقول الدكتور علي جواد الطاهر:
راح الجواهري ينظم لنفسه مع نفسه تحدوه الثقة، وتبعثه الطبيعة، حتي اذا اطمأن مجدداً بدأ يخرج عن نفسه فيطلع من يستضعفهم من أصحابه مثل قاسم محيي الدين، وإلا فانه ما زال يتهيب ويتخوف كثيراً أن يطلع الأكبر سناً ومنزلة في الشعر أمثال: رضا الشبيبي وعلي الشرقي ــ انه يراهم عالين جداً، ثم انه يخشي الحزازات ويخشي أن تؤدي القراءة إلي المثبطات، لانه يعرف كم في مجتمعه هذا الذي يبدو في ظاهره براقاً من لؤم وخبث وحسد وايذاء، انه علي الغاية من القساوة حتي لترتبط هذه القساوة بالعمامة ارتباطاً عجيباً (من المولد حتي النشر في الجرائد ــ مقدمة الطبعة الأولي من ديوان الجواهري، بغداد، ج1 ص94).
وبرغم تلك (القساوة) و(اللؤم) و(الخبث) و(الحسد) و(الايذاء) المحيط به، فقد كره العنف: أنا في حقيقتي أكره العنف، وأشعر أحياناً ان عنفي في غير محله، فأشجب نفسي، ولكنني لم أستطع إلا أن أكون كذلك، أنا مثل بطل بلاك في رواية الزوج الضائع : (حسن التفكير سيئ التصرف)، وحين قرأت الرواية قلت: هذا أنا (الجواهري في حوار مع مجلة (المثقف العربي حزيران (يونيو) 1971، ص133).
وهذا اعتراف يقرب الجواهري إلي مصداقيته، ولقد كان كذلك بالفعل، في كل ما كتب وما أنتج من شعر محبة، للوطن والناس، فقد حمل الشاعر الوطن معه أينما ذهب: (ان الوطن معي والناس في دمي، أينما كنت).
و(اذا كان الاسلوب هو الرجل) ــ بحسب بوفون ــ فان الجواهري هو نفسه في شعره، حين يتألم أو حين ينوح، أو حين يتحدي ذلك بالشعر، وبعناد المكابرة والكبرياء:
أزح عن صـدرك الزبدا
ولا تتنفس الصــعدا
ولا تحزن لأن قـطـعت
يداك الزند والعـضـدا
وانك تطعم الأيــــام
يوم الأحــمقين غدا
أتخشي الناس؟ اشجعهم
يخافك مغضــباً حردا
ولا يعلوك خـــيرهم
ولــست بخيرهم أبدا
ولكن كاشـفاً نفسـاً
تقيم بنفســها الزردا
سـيطريها اذا انتقدت
مســاوئها من انتقدا
انه صوت شعره، وكما قال المتنبي عن نفسه امام سيف الدولة الحمداني: ودع كل صوت غير صوتي فانني… أنا الطائر المحكي والآخر الصدي (ديوان المتنبي، ج1، ص291).
أو كقوله:
(أنام ملء جفوني عن شواروها
ويسهر الخلق جراها ويختصم) (الديوان، ج3، ص367).
يقول الجواهري:
(وخل البون ناعــبة
تقيء الحقد والحسدا)
(خفافيش تبص دجي
وتشكو السحرة الرمدا)
هذا الذي عذبته الغربة، حين عاد إلي الوطن أراد أن (يُرح ركابه) ولكن هيهات!
(أرح ركابك من أين ومن عثر.. كفاك جيلان محمولاً علي الخطر) (بريد الغربة، ص29 ـ 31). لكن الجواهري يدرك أن (النبوغ) و(العبقرية) محاصران بالموت، و(الأمل) في النعي:
يموت (النبـوغ) علي حـده
وينعي به (الأمل) المرتجـي
وتمشي الجموع علي ضـوئه
لتبكي علي عبـقري قضـي
وكـادت تلفك في طـــيها
حواشه.. ردتك كف القـضا
وإنك إن يلتمع بــــارق
يخاف علي الروح منه العمي
وان كانت انا حتفهم (في رثاء هاشم الوتري) مباشرة في ادانة السلطة، مثلها مثل مرثية الشاعر للزعيم الوطني (جعفر أبو التمن) فهو في (المقصورة) يستشهد دائماً بهذا البيت كأنه يتغني فيه بنفسه:
أقول لنفسي اذا ضـــمها
وأتـــرابها محفل يزدهي
تسامي، فانك خير النفوس
إذا قيس كل علي ما انطوي
وأحسن ما فيك ان الضمير
يصيح من القلب اني هـنا
يعلق الجواهري علي هذه الأبيات: (بكل بساطة هذا نوع من الذاتية، أسوقه كمثال، انها مركزة، وضمناً هي المثال الذي أريده للناس).. فهو يدرك كيف يموت (الخالدون) وتبقي أعمالهم في (الخلود)، ففي قصيدته (افتيان الخليج) ختم بهذا البيت العالي:
يموت الخـــالدون بكل فج
ويستعصي علي الموت الخلود
وفي آخر أيامه وأشعاره يجيء بهذا الاعتراف:
لم يبق عــــندي ما يبتزه الألم
حسبي من الموحشات الهم والهرم
لم يبق عندي كفاء الحادثات أسي
ولا كفاء جراحــــات تضج دم
وحين تطغي علي الحران جمرته
فالصمت أفضل ما يطوي عليه فم
وصابرين علي البـلوي يراودهم
في ان تضمهم أوطـــانهم حلم
الجواهري يجيد الشعر حين ينوح أو يبوح:
ولكم طربت فما أجدت وحسبكم
أني أجيد الشعر حين أنوح
(الديوان، م1، ص238)
فالطرب هو الانسجام مع اللحن الذي تستمع إليه، قد يعني الفرح أو الحزن، وقيل أن الطرب ـ بحسب ثعلب ـ: خفة تعتري عند شدة الفرح أو الحزن (لسان العرب، مادة: طرب، ص2649).
والجواهري كان وظل (غريب الدار)، الذي أسري به (الأجل).. (وطول مسيرة ملل):
وطول مسـيرة من غير
غـاي مطمح خـجـل
علي اني لأن ينهي غد
طول الســري وجـل
يفسر ذلك في (بريد الغربة) :
تماهل خـشية ووني
وعقبي مهله عجل
وقطع خـطوه جنفاً
كما يتقاصر الحجل
أقول وربما قــول
يدل بـه ويبتهل
ألا هل ترجع الاحلام
ما كحلت به المقل
وهو يطرب لحكمة أيامه، ويصور ليل غربته:
كأن نجومه الاحـجار
في الشـطرنج تنتقل
يساقط بعضها بعضاً
فما تنفك تقـتـتـل
ارح ركابك
الجواهري الذي صدح من ناء الديار: (ارح ركابك)، ظل محفوفاً بالخطر طيلة القرن العشرين وصخب أحداثه.. كنت سألته مرة باحثاً عن تأثير (الحدث) فيه وفي شعره تالياً: برغم المقارعات العديدة، أية (حادثة) نتجت عنها قصيدة ما زالت شاخصة بذهنك مع الزمن؟ .
أجاب: الشاخصة منها ظلت في ذاكرتي، لانها مرتبطة بحوادث، أو في ما جرت من ذيول وما تلبست بها من حوادث مثيرة أو مؤثرة علي، وعلي مَن رافقني..، تأتي قصيدة (الوتري) بظروفها الشاذة وكيف اقتحمت، والمشانق أعوادها لما تزل في أوائل عام 49 وكانت هذه القصيدة في تكريم (الوتري) أكثر من مغامرة، وفيها ناحية جنونية لمن يقف فيها ويقول ما لا يقال.. أنا أذكرها باعتزاز في ما رافقها واعقبها .
هذه الأولي.. والثانية؟
ــ والثانية.. في تأبين عدنان المالكي.. أن يخرج واحد من العراق مسافراً بجواز سفره الرسمي، وعلي الرغم من كل ما حدث هناك، وما أعقب ذلك من لجوء سياسي مدة سنتين في سوريا.
و(من) الأشد لصوقاً في ذاكرتك؟
ـ يمكن أن تكون أفظعهن أيضاً، وأشدهن لصوقاً في ذهني بالفعل ولحد اليوم، هي قصيدتي أتعلم أم أنت لا تعلم هي أخي الشهيد جعفر (وهنا تهدج صوت الجواهري، واتقد الألق الأحمر في عينيه).. فهي (صمت لحظة ثم أردف).. لا تبارحني لدراميتها العنيفة، وما دفعت من ثمن غال في سبيلها، وهي أكثر القصائد والأحداث شخوصاً في ذاكرتي، اتعلم عجيبة، ما وجدت قطراً عربياً حتي من لا يحفظ فيها من شعري خمسة أبيات إلا ويحف من أتعلم .. وسرها هو الانبعاث الداخلي العميق وقوة العنف والصدق والحرارة فيها.. ثم.. ان انفعالاتي في يا دجلة الخير وظروفها الحياتية، شاخصة أمامي هي الأخري لما رافقها من ملابسات، (يصمت الجواهري لحظة).
وأسأله: وأكثر ما تفجر عندك في هذه القصائد؟
(يجيب): أكثر ما تفجر عندي من هذه القصائد التي عملت عملها ان الباعث الاول والأفضل فيها هو ما كنت أشارك الناس فيه من آلام تتجمع عندي وتتفجر.. وفي الوقت ذاته تذوب ذاتيتي: (أنا حتفهم).. تري كيف تتلبس الناس وتعيش معهم!
و.. يقولون كيف وفقت لخلق (أنيتا) برقتها وصورها وبين (اتعلم) و(الوتري)، وما (أعنف!) قصائدك؟
ـ حين حضرت مؤتمراً في بولونيا، مررت بباريس، وباريس تترك أثرها علي كل شاعر، لقد جاءت القصيدة بعد (يوم الشهيد) و(اتعلم) و(الوتري)، والنقطة الحساسة والعميقة في هذه المسألة كيف تأتي (أنيتا) بما فيها من عاطفة وانفعالات بين قصيدتين دمويتين؟ وأقول ان العاطفة لا تتجزأ، فـ(أنيتا) هي ثورة العاطفة، وتلكم القصائد ثورة في الثورة، لذا فوحدة الموضع لا تتجزأ: (أنيتا) و(باريس) تصوران كيف يتنقل الانسان الحساس في هذه الاجواء..
وكنت طلبت من شاعرنا أن يتحدث عن (جو) الحدث في واحدة من هذه القصائد، قصيدته عن (هاشم الوتري) نموذجاً، فذلك يعطينا (صورة) واضحة عن انفعالات الشاعر، والجواهري ليس أي شاعر، ولا قصيده، وهنا أضع، بأمانة، ما قاله الجواهري، كي تعزز شهادته الرأي الذي أذهب إليه في هذه المقالة:
قال الجواهري انه حين وصل بغداد عائداً من باريس من دون أن يخبر أهله، يذكر جيداً ان أول الحوافز كان سائق التاكسي الذي يتذكره جيداً بلحيته المطعمة بين كهولة وشيخوخة وكيف عرف الشاعر فبادره بقوله وهو بعد داخل العربة:
ـ عمي.. علكوهم!
وكان يعني شهداء الحركة الوطنية.. اذ كان يوم وصول الشاعر قد صادف صبيحة ثاني يوم شنق المناضلين، وكانت هذه (الكلمة) من السائق كفيلة بأن تصنع خميرة القصيدة، إلي جانب ظروف الجواهري القاسية التي لا توصف لما لاقاه من ضيق وحرمان ابان تلك المحنة (بعد وثبة كانون)، وكانت جريدة (الرأي العام) قد اغلقت، وفي غمرة انفعالاته وعذابه، هاتفه الدكتور اسماعيل ناجي (وكان سكرتيراً لهاشم الوتري) يطلب منه..
سأله شاعرنا: والمطلوب؟
أجاب د. اسماعيل: ان الشباب مشدودون إليك، ولابد أن تساهم في حفل تكريم الوتري..
وكان هاشم الوتري عميداً لكلية الطب احتج واستقال بسبب اقتحام الشرطة الكلية، ثم كان دوره المشرف في الوثبة، اذ وقف بنفسه لعلاج الجرحي، وبخاصة شقيق الشاعر (الشهيد جعفر) الذي بقي اسبوعاً قبل ان توافيه المنية، وكان الجواهري يكن الاحترام للوتري فهو رجل علم معروف بنزاهته، فأجاب د. اسماعيل: (أشوف)
الواقع انني كنت أرقص طرباً لهذا الطلب وكنت أتمناه، لكنني كنت (أتدلل) لكي أضمن الدعوة للمشاركة (أصوكرها)! .
ـ قال الجواهري ـ وعاد د. اسماعيل ليلح عليه، وكانت المدة المتبقية خمسة إلي ستة أيام (فاعتذر) بسبب (قصر المدة) لكن من دون جدوي.
هذه صورة الانفعال الاولي..
أما صورة الانفعال الثانية، أو الحافز الثاني، فان هاشم الوتري كان قاسماً مشتركاً بين الوطنيين وبين الحكومة، اذ كانت وشائجه قوية مع الطرفين، ومن (حسن الحظ) ومن المفروغ منه أيضاً ان التكريم الذي سيحضره رجال البلاط، وهذه فرصة الجواهري للمجابهة، (وهذه الصورة الثانية) ــ يقول الجواهري ــ (ساعدته) في (عنف) القصيدة! وأن (يقول ما لا يقال)!
أما العنصر الثالث، فان الشاعر كان يريد أن يقول شيئاً (حد الانتحار!) لانه أراد الامعان في التحدي، وانهم برغم (تحشيدهم الجوع) عليه، من بعد ما (حشدوا المغريات)، لم يذعن لهم!
(فصَّل) بدلة جديدة مستعجلة وأنيقة (خصيصاً) لهذا الاحتفال، لكي لا يقال ان الجواهري في عوز، برغم ما كان يعانيه بالفعل من مرارة شظف العيش.
وحين ألقي قصيدته كانت (الطبقة الأولي) أمامه، يسميها الجواهري: طبقة (البياض) علي نقيض (سواد الناس).. وفي القصيدة مع كل ما فيها مما لا يقال في ظرف اشتد فيه الارهاب حتي أن (أحداً لا يجرؤ علي الكتابة بالفحم علي الحائط).. وحين انتهي من إلقاء القصيدة، وهو يعلم ما فيها وما قال، وقف أمام الجميع ومزق أوراقها ذرة، ذرة، من دون انفعال وكأنه (يشرب) قدح ماء!
كان يريد أن يتحدي اولئك الذين اسقطوا من حسابهم الجماهير، ولم يخطر ببالهم ــ ولا بالطيف ــ أن أحداً يجرؤ ويقول ما قاله، لذا لم يوفروا شرطة الأمن، ولم يسجلوا وقائع الاحتفال، مما سبب مضاعفات لبعضهم، اذ كان يعزل فيها هذا (البعض) من مركزه!
وحين غادر الجواهري المكان، ركب (الباص) وكان الناس ينظرون إليه (بفزع) ــ بحسب تعبيره ــ شنو القصة؟ .
كان ذلك علي مدي ثلاثة أيام، استدعوه بعدها وأوقف لثلاثة أشهر في أقبية تحقيقات (بهجت العطية) ــ مدير الأمن العام ــ أطلق سراحه بعدها في ليلة عيد الفطر تماماً.
ومن الطريف أن (حاكم التحقيق) كان أديباً يحتفظ في درج مكتبه ــ ضمن المستمسكات الجرمية التي تسجل ضد الشباب التقدمي الذي اعتقل آنذاك ــ (عالم الغد) وأشعار الجواهري الأخري، هذا (الحاكم) أخبر المجلس العرفي ان القصيدة (لا شيء فيها) يستدعي التوقيف، لكنهم امروه بابقاء الجواهري. موقوفاً.. وبقي!
وراح الجواهري يتلو أبياتاً من هذه القصيدة:
حشدوا عليَّ المغريـــات مسيلة
صغراً لعاب الأرذلين رغـــائباً
ويقول فيها أيضاً:
حتي اذا الجندي شــد حزامه
ورأي الفضيلة أن يظل محارباً
حشدوا عليه الجوع ينهش نابه
في جلد أرقط لا يبالي ناشـباً
وعل شبول الليث خرق نعالهم
أزكي من المترهلين حـقائباً
وهذا يشير بالابهام إليهم:
يتبجحون بأن موجاً طـــاغياً
سدوا عليه منافذاً ومســـارباً
كذبوا، فملء فم الزمان قصائدي
أبداً تجوب مشــارقاً ومغارباً
تستل من أطفارهم وتحط من
أقدارهم وتثل مجداً كـــاذباً
أنا حتفهم ألج البيـوت عليهم
أغري الوليد بشتمهم والحاجبا
اذاً.. فالصور الشاخصة مرتبطة بالأرض والناس ــ كما يري الجواهري ــ وهي لا تذهب هباءً، فالصور التي ترتبط بالحوادث وقضية الشعب تبقي في الذاكرة.. (ويكون التجاوز، بغداد 1974، ص489 ــ 492).
فهل أبلغ من قول الجواهري: الصور التي ترتبط بالحوادث والشعب تبقي في الذاكرة ؟
انه حدد المسار لشعره، وحدد لنفسه ــ بالفعل ــ موقعاً في قلب التاريخ (العراقي) و(الانساني)، ويستحق!
وكما قال الصاحب بن عباد في المتنبي:
سأفرش له الأرض ذهباً .. ولن يكفي!
لذا فالجواهري لن (يموت) أو ينسي، ما دامت هناك ذاكرة وطنية وذكري (كان ضميراً حياً لكل الناس الاحرار في كل مكان)، ـ بحسب (البياتي) في رثاء شيخه! ـ
أبعد ذلك يمكن أن يُنسي؟!
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل ؟! .
ـ الحوار مع الجواهري : انظر كتابي ويكون التجاوز بغداد 1974،
وكتابي: آلة الكلام: النقدية دمشق 2000. محمد الجزائري.
المصدر : جريدة (الزمان) العدد 1333 التاريخ 2002 – 10 -9