من دفتر الغربة .. (من بعيد).

من دفتر الغربة .. (من بعيد).
* بدأ الشاعر نظمها عام 1962، في براغ وأكملها أواخر عام 1972 وأوائل عام 1973 في بغداد.
* نشرت في جريدة "الثورة" في العدد 1380 في 22 شباط 1973.

من بعيد لكم يحنُّ حنيني
وبذكراكمُ تُثار شجوني

وإذا ما خَطَرتُمُ خَطَر اليأسُ
وساوى تَيَقُّني بظُنوني

يا أحبايَ .. والليالي عجيباتٌ
عِجافٌ يأكُلنَ كلَّ سَمين

وبنو الدهر يمخرون على أثباجِ
غَيبٍ مُحمَّلٍ بالسَفين (1)

أعلى العَهد أنتمُ . أم تَنائي الدار
يُنسي الخدينَ ذكرَ الخدين

أكرَهُ الحزنَ غير أنَّ فؤادي
بادِّكار الأحباب جدُّ حَزين

أنا عبدُ الوفاء والحبُّ دُنياي
هما دون من عَبَدتُ ودِيني

والرجولاتُ دونَ ذَينِ هباءٌ
وإنِ استعصَمتْ برُكنٍ رَكين

* * *

يا مطافَ الأحلامِ في الستينِ
جدّدي الذكرياتِ من عشرين

الهتِ السامرينَ نَشْنَشةُ الكأسِ
وعصفُ الهوى .. وسحرُ العيونُ (2)

والأماسيّ راقصات .. وأسمارٌ
لذاذ وغُنجُ حُورٍ وعين

والنشاوى يخطِرن بين سَموحٍ
سَلْسَةِ المُشتَهى . وبينَ حرونِ (3)

كلما خِيلَ أفلتَتْ  من كمينٍ
لغواةٍ .. تعرضت لكمين

ومجرُ الذيول ذاتَ شَمالٍ
ساحبٍ عطرَهُ .. وذاتَ يمين

يَعبقُ الليلُ من لُهاثِ العذارى
وندى الفجرِ من شذا الياسمين

وتفردتُ ساهماً أنا .. والكأس
وحزني .. وسارحاتُ الظنون

رُحتُ من فرطِ ما انقِّلُ عيني
من حوالَيَّ نُهزةً للعيون (4)

وتخيلتُني وقد شفَّني الوجد
طريداً من عالمٍ مخزون

ويداً برّةَ المَجَّس عطوفاً
تمسحُ الحزنَ ناضحاً عن جبيني

* * *

يا ربايا شعبٍ .. وحراسَ أجيالٍ
ويا أصفياءَ حقٍ مُبين (5)

أيها المكثرونَ من نِعَمِ الدهرِ
جزيلَ العطاءِ .. غيرَ ضنين (6)

جمراتٍ تُشَبُّ في عذباتٍ
تحتها للطغاة ألفُ طعين

هُنَّ .. هُنَّ الدنيا وهنَّ حياةٌ
لمُهانٍ .. وهنَّ حتفُ مَهين (7)

ما تَهاوَى العروشُ إلا وكانت
خلفَها قبضتا أديبٍ مكين

يَسْبِقُ الموتَ عاصفٌ ثم تعوي
من ثنايا السطور ريحُ المنون

خُلِق الكونُ من حروفٍ عليهنَّ
الحضاراتُ شُيِّدتْ من قرون

حَضنتهُنَّ مثلما تَتَبنّى
روعةَ الشعرِ روعةُ التلحين

غَنَّتِ الخَلْقَ سادراً عبقريا
تٌ تنزّلْنَ عن كتابٍ مبين

* * *

حلْيةٌ نحن من طرازٍ فريدٍ
وبقايا عطرٍ خفيٍّ ثمين

وَرحِمَتْ ألفُ ألفِ حُبلى وحُبلى
تتشهاهُ من بطونِ السنين

نحنُ من نطفةٍ سوى نُطَفِ النا
سِ وطينٍ من غيرِ ذاكَ الطين

نحنُ في غُرةِ الليالي رُواءٌ
من شبابٍ والناسُ مثلُ الغضون

تُتْعِبُ الشارحينَ منا حياةٌ
نحن في سِفْرِها نصوصُ متون (8)

نحن ممن لا يسترٌقُهُم العمرُ
بِحُلوِ المُنى ومُرِ المنون

نحن لا نزدهي ببارقةِ العيشِ
ولا نعمةٍ من المنجنون (9)

بحفوقٍ من نجمةٍ مستردٍ
وعطاءٍ من شمسهِ ممنون (10)

نحن صرعى الهمومِ في كلِّ وادٍ
وضحايا الجلاّدِ في كلِ حين

نحن من في سبيلِهِم أُبرِمُ السوط
وشُيدت لهم جِبابُ السجون (11)

نحن نحن الذين نستبقُ الغيبَ
بعقبى غدٍ مخيضٍ جنين (12)

يتعادى الباغون إلا علينا
من " أمين " منهم .. ومن " مأمون "

صلةُ الأمر عندهمْ أنَّ ذِهناً
يستشفُ الغيوبَ غيرَ أمين

كَمْ أطحناهُمُ بضربِ الوتينِ
وفُدِينا منهم بعجلٍ سمين

نحن من لَقَّطوا لهم من حثالاتِ
الدُّنى كلَ فاجِرٍ مأفون (13)

واستعانوا للجمِ كلِ أصيلٍ
يتحاشَوْنَه بألفِ هجين

* * *

يا أحبايَ والمصيبةُ أنّا
إذْ ركبْنا مستوعراتِ الحُزون (14)

لَمْ نَجِدْ من يُنَفضُ الرملَ والوعثاءَ
عنّا من صاحبٍ وخدين (15)

كَمْ دموعٍ جَفَّتْ على بسماتٍ
وخُطوبٍ هانَتْ على تهوين

وبميلادِ كل جيلٍ يوفي
حقَ جيلٍ من دائن ومدين

خِلقةٌ شِبْهُ خِلقَةٍ .. غيرَ جيلٍ
طالما امتدّ مُثقَّلاً بالديون

حاشَ للهِ .. والمروءاتِ إنّا
شركةُ الناسِ في عذابٍ وهون

لم نكنْ وحَدنا .. فقدْ وَحَّدتنا
بالملايينِ حشرجاتُ المئين (16)


(1) الأثباج: أعلى الأمواج.
(2) الشنشة: تعني في الأصل صوت غليان القدر واستعارها الشاعر لصوت الخمر في الكأس.
(3) يخطرن: يتمايلن.
(4) نهزة – هنا – هدف.
(5) ربايا: جمع ربيئة وهي الطليعة.
(6) ضنين: قليل.
(7) مهين: من هانت نفسه عليه.
(8) السفر: الكتاب.
(9) المنجنون: دولاب الفلك الدائر.
(10) ممنون: مقطوع.
(11) الجباب: جمع جب أي قعر السجن.
(12) أي نعرف الغد وهو جنين قبل أن يأتي.
(13) مأفون: مختل العقل.
(14) الحزون: جمع حزن وهو المرتفع من الأرض.
(15) الوعثاء: التراب.
(16) المئين: المئات.

المصدر : ديوان الجواهري-الجزء الخامس-الجمهورية العراقية-وزارة الاعلام-مطبعة الأديب البغدادية -بغداد 1975م