النخيلُ والجواهري سيدا الشجرِ والشعرِ : رشيد الخيُّون .

النخيلُ والجواهري سيدا الشجرِ والشعرِ

لم أره غير مرة واحدة، ولم أحضر من أماسيه غير أمسية واحدة، قرأ فيها الشعر فتمثل لي بقامته ونبرته العراق بكل تلاوينهِ، قصدته بعد ترجله من منصة الشعر، وسط استغراب كبار القوم من وزراء وسفراء العرب، أسرع الركب فأسرعت خلفه، قصدت لفت انتباه الجواهري لرغبتي في الحديث إليه، قال مستغرباً: (ها بويه؟) قلت: أبو فرات هل تذكر مدينة علي الغربي؟ قال: نعم، وماذا تريد؟ قلت: هل تذكر مجيد الخيُّون (غير الشاعر الشعبي مجيد جاسم الخيُّون)، قال: نعم، صديق كريم، قلت: إنه عمي. وأردف وهو يحني قامته ويدخل سيارة الضيافة الرسمية: يا ما جلسنا على الرملة، ناس كرام، سلم لي عليهم. تجملت ذاكرتي بشيء مع الجواهري، وهي الغاية، ألا يطلب الناس من عظمائهم إمضاءً؟ فما فعلته لا يقل أهمية من أخذ إمضاء الفيس برسلي من قبل المعجب الأمريكي. وكان مجيد الخيون يشارك الجواهري منفاه بعلي الغربي في حدود 1954، ومما حكاه لي أن أبا فرات سهر ليلة كاملة يحاول كتابة بيت من الشعر الشعبي الأبوذية، لاعجابه ببيت قاله أحد الناس أمامه، ولما عجز قال: الشعر ما لا يستطيع قوله الجواهري ! .

جمعت الذاكرة الجواهري، حاضراً وراحلاً، بالعراق جمعاً شديداً، ويوم قرأت مانشيت نعيه على صفحات الجرائد العربية لم أفكر بموته بقدر ما فكرت بالعراق، هل يبقى حياً بعد الجواهري؟ نعم المبالغة بالإعجاب تقود عادة إلى اللامعقول في التفكير، أو بالعكس اللامعقول يقود إلى المبالغة والتقديس، فحكمت العواطف، منذ الصبا، أن تجعل الجواهري والعراق واحداً في طرائق الخلود. لم أجد نفسي الوحيد متبنياً اللامعقول في عاطفته تجاه الجواهري، فأيام واستلم رسالة من صديق طفولة لا زال وفياً لبيئة الأهوار وبراعتها الشعرية، كتب لي مات الجواهري فهل سيبقى العراق؟ وأخذ يحادث الجواهري بشعر شعبي منه :

"أنه شكيت بمماتك جي قوافيك نهرين بوطن".

وناظم الشعر هذا أحب الجواهري لغاية الاعتقاد بتوقف الشعر بعده.كان صاحبي الشاعر الشعبي صادقاً في تخيله بخلود الجواهري، فملحمة جلجامش وصلتنا عبر قصيدة شعر، وهو يحفظ للجواهري ملاحم من الخلود، فتمناه جلجامش آخر يطوق العراق بقصائدَ خالدات، تكذب حتى ملحمة جلجامش، فقال له:
"مسجل بطينات سومر أنت جلجامش الثاني جنت تسعى للخلود".

لكن حاضر العراق يوم مات الجواهري كان شاحباً، وتسلل اليأس للشاعر الشعبي، فعاد يرثي أوروك وجلجامشها الثاني، وينتظر الفجر.

عندما يحب الجواهري يحب بعنف وعندما يكره يكره بعنف أيضاً، هذه وشيجة يلتقي فيها العراقيون كافة، كيف لا والجواهري ونحن تطبعنا بها من طباع دجلة، فهو القائل في مثل هذه المفارقة:
تُريك العراقي في الحالتين
                   يسرف في شحه والندى

كلما أعدت مقارنة المرثيتين، مرثية الجواهري لأحمد شوقي، ومرثيته لمعروف الرصافي، أجد ذلك الغلو مرة بالمحبة والإعجاب، وأخرى بالفتور وحجب العاطفة، والجواهري مثل أي فيلسوف يومئ إلى عاطفته، ولينشغل الناس بتفسيرها، فهو ليس أقل حظوة في ذاكرتنا من أبي الطيب المتنبي، الذي شغل الناس بما قال:
أنام ملء جفوني عن شواردها
                    ويسهر الخلق جراها ويختصم

 قال الجواهري راثياً أحمد شوقي (1932):
طوى الموتُ ربَّ  القوافي الغررْ
                    و أصبح شوقي رهين الحُــفرْ
وأُلقي ذاك الدمــاغُ العظـيمُ 
                    لثقل الـتراب و ضـغط  الحجر
وجئنا نُعزي به  الحاضــرين
                    كأن لم يكن أمـس فيمن حضر

وفي كل ما قيل ويقال حول الجواهري وتقلبه، محبته أو بغضه مزاجيته وأنانيته، ما أخذته على محل الجد وحفظته له في مكمن الذاكرة هو قصائده فقط، وأترك ما قيل ويُقال عنه، فقصائده تقول: حببت الناس والأجناس:
مَنْ شبَّ ومَنْ شاب ومَنْ أظلم
كالفحم ومَنْ أشـرق كالماس

بين المعري و الجواهري ألف عام، وهو الذي قال في الفيلسوف الأعمى ما لم يقله الأولون ولا المتأخرون. قلت الزمن بين الصادحين عشرة قرون، فذاك شاعر القرن العاشر وهذا شاعر القرن العشرين، فما الذي دعاني إلى التوهم بين شعريهما، غير تجاوز الجواهري للدهور، بفن يرضي الأجداد والأحفاد. قال لي نجل الجواهري الصديق فلاح، أراك توهمت بين الجواهري والمعري، عندما استشهدت في مقال النخيل بالمعري وسربت لشعره من مفردات الجواهري، فقد كتبتُ ونسبتُ إلى المعري:
شربنا ماءَ دجلةَ خيرَ ماءٍ
وزرنا سيد الشجر النخيلا

فمقصورة الجواهري تقول:
على النَّخل ذي السعفات الطوال
                          على ســيد الشــجر المقتنى

أنا كصاحبي الشاعر الشعبي لا زلت أشك بموت الجواهري، وهذا لمن قرأ كتب الملل والنحل الإسلامية سبب كاف للغلو بالأشخاص عبر تأبيدهم، ووهمٌ تركز  في مخيلتي وشدني إلى التعاطف مع فكرة أن يكون الجواهري جلجامشاً آخر. مؤخراً أُكتشف قبر لجلجامش في محيط مملكته أوروك، ومن الأماني أن يتحول هذا القبر إلى ضريح، تُرسم حوله عظمة ذلك الماضي لكي يخجل الحاضر من تخلفه وترديه. ننتظر أن يُسرى برفات جلجامش الثاني  بمسيرة تجتمع فيها الأزمنة، كيف لا وهو والعراق توأمان؟ فهو القائل في ذكرى المالكي بدمشق :
أنا العراق لساني قلبه ودمي
                      فراته وكـياني منه أشـطار

                                        رشيد الخيُّون
                                        تموز/يوليو 2003


بريد الكتروني: r_alkhayoun@hotmail.com

المصدر : مركز الجواهري / براغ http://www.jawahiri.com