لجواهري : وعي على ذكرياتي (4)
(بكفيا)… "… بـَدك كِبـِه نـَيـِه؟!"
فلاح الجواهري
غسلَ البحرُ أخمصيها ورَشـّتْ عبقاتُ الندى جباهَ الروابي
– بـَدك كبـِـه نيــِه ؟!
كنت اقف مترددا في حديقة زاهية الخضرة محاطة بسياج خشبي قليل الارتفاع.
… امامي باب المطبخ المفتوح..
بعيدا فى الداخل، تجلس امرأة بفخذين سمينين منفرجين نصف عاريين.
تمدّ باحدى يديها عجينة مغزلية… تدعوني بحركة رأسها الى كسر خجلي والتقدم لاخذها.
اتقدم ببطء وحذر… آخذ العجينة المغزلية الصغيرة… العجينة لونها مائل للخضرة.
.. اتذوقها بحذر
… طعمها مالح غريب.
… اردّها بخجل الى المرأة المبتسمة.
اتراجع ببطء الى الحديقة.
افتح باب السياج الخشبي الواطيء الاخضر
… سفح مدرّج اخضر ينحدر… ينحدر
… درجة… درجة… درجة
حقول واسعة خضراء.
على يساري اشجار شامخة خضراء.
أشجارعنب قصيرة.
… خضراء
في الجانب الآخر البعيد….
سفح اخضر.
ينحدر… ينحدرالاخر.
… يلتقي السفحان.
خضرة تشف هنا.
… وشاحات طويلة خضراء، هناك.
ابخرة دخانية… ضباب
يتقاطع الضباب…
بالخضرة الاخرى….
اتقدم الى حافة المنحدر.. اتنقل ببصري في خضرة المدارج،في السفح المقابل،
في العمق المحزّم بوشاحات الابخرة الدخانية… بالضباب، بشجيرات العنب القصيرة المتراصة.
… انزلق الى الدرجة الأولى…
اثبّت قدميّ المهتزتين على التربة الحجرية.
… شجيرات العنب تعلو رأسي.
… انزلق الى المدرج الذي يليه.
… والذي بعده… وآخر.
اواصل انزلاقي باتجاه العمق المضبب.
… رجل ضخم منحن ٍ يلبس شروالا منتفخا اسود يحفر في الارض بعصاة.
… العصاة برأ س اداة حديدية حادة.
اتذكر أداة تقطيع اللحم في المطبخ.
اقف… اتأمله قليلا.
… اتأمل الاداة التي تحفر.
… اواصل انزلاقي مدرجا ومدرجا ومدرجا.
انزلق عن آخر مدرج.
اقف واستدير.
ارفع رأسي… حيث بدأت؟.
… أرى خضرة تتصاعد وتمتد.
… المدارج لا تتمايز.
تتلاشى حاشية الاعالي الخضراء بزرقة السماء الشافة.
أشعة قرص الشمس القريب من الحافة تعشي عيني.
أشعر بدوار.
أخفض بصري واستدير.
هنالك جدول قريب…
امشي بفرح اليه.
… اجلس على حصى حافته.
برودة الندى لها طعم النعاس.
… احس بالخدر.
امد ساقيّ فيبتل حذائيّ.
على مهلي اطرطش الماء
ثم بقوة،.. ميّ! ميّ! ميّ!.
. هيه ميّ ميّ ميّ.
هيه هيه ميّ.
نثار الماء يرتفع… يتموج حول حذائيّ
يندىحذاءي
إنتعشَ وجهي،… ميّ! ميّ! ميّ!.
. ابعثر الحصى من تحت يديّ ثم أمسك حفنة منه وارميها في الجدول الرقاق.
الوان الحصى تتلامع، تختلط.
انهض. اخوّض في الجدول فوق الحصى، ينزلق الحصى تحت قدميّ،أجتازه الى الجانب آلاخر.
… اتوجه الى المدارج المقابلة.
… اتسلق بجهد المدرج الاول…
الثاني اقل ارتفاعا.
من جديد،شجيرات العنب تعلوني…
اواصل الصعود.
بضعة مدارج… عند الحافة.. غبش المساء بدء يتكاثف،خطوط حمراء،ووردية وصفراء
وبرتقالية.
اتسلق المدرج الاخير… تتكاثف الزرقة.
في حواشي السماء، هنا، وهناك.
احزمة بنفسجية.
بنفسجية… بنفسجية حمراء.
استدير. اطل الى الاسفل…
عتمة القعردخانية.
. اقف. اجيل النظر بحيرة…
… كم انا جائع!.
* * *
اضوية كثيرة معلقة… احمر… ازرق… اخضر.
موائد حولها اناس بازياء، وازياء… اناس ببناطيل سوداء وقمصان بيضاء يتحركون بين الموائد حاملين صوان وصحونا واقداح.
… اشجار هنا وهناك بين الموائد وحولها.
اربعة اطفال حول مائدة.
نجلس. نكركر. نصخب… امامنا صحون
… نرفع كوءسا فارغة. ، نكركر.
… " صحتك!"… ،" صحتين! ".
اجلس قرب سياج خشبي واطيء.
امد رأسي فوق السياج.
… اشجار عاتمة تتطاول.
من قعرالوادي.
تطفو العتمة
في عمق القعر… ضاع البصر.
اطيل النظر.
اغوص في العتمة…
لا وحشة في الظلمة!!.
عينيّ تواجهان قوس المدخل الذي تتعلق فيه اضوية ملونة كثيرة…
من المدخل ارى والدي ببدلته الفاقعة اللون.
يتقدم بخطاه الواسعة صوبي.. شعره الكث منفوش، لِمـّـتة كبيرة.. عيناه جاحظتان فيهما غضب… تحول الى استغراب… تحول الى جذل.
اتت خالتي خلفه شبه مهرولة.
وقف الى جانيي. اطل بوجهه عليّ.
ابتسامته ماكرة مستغربة…
ارفع قدحي الفارغ تجاهه…
" صحتك! ".
تبكي خالتي.
ياخذني والدي تحت ذراعه ونمشي..
احس بفرح.
في زقاق مظلم نتوقف عند باب عاتمة بظلفتين خشبيتين ضخمتين..
يفتح الباب. يظهر رجل طويل برداء طويل اسود. غطاء رأسه طويل اسود.
لحيته طويلة سوداء.
.. هذا هو( ابونا)!.
"ابي"… "ابونا".. "ابي وابونا".. ". ابونا وابي"
غرفة بكنبات كثيرة، وكراسي، ومناضد، ورفوف، وكتب، واوان، وملاعق، وهرة تموء وتدور رافعة ذيلها.
– ميـيـيــوو… تتمسح القطة برداء ابونا الاسود الطويل.
أبونا يتحرك في الغرفة بكثرة،… يتكلم ويضحك بصوت عال.
– قم وقبل يد ابونا!، هو من دلنا عليك.
أنهض بارتباك وخجل وخوف.
.. يرفعني ابونا بيديه الضخمتين
… اطير عاليا.
يقربني من وجهه، تدغدغني لحيته…
يجلس…
اجلس على ركبتيه.
* * *
أبي في المقعد الامامي قرب السائق… اضع رأسي على حافة النافذة.
… اشجارضخمة سوداء تمرق خاطفة من جانبي.
… نسمات طرية حلوة باردة تضرب وجهي.
تنحرف السيارة…
… ينحرف الوادي.
الوادي مظلممم، عميييق.
. اطير… اطيييير.
اطير فوق الوادي.
يظلّم العميييق… الوادي..
يظلـّم الوادي.
أغمض جفني.
رأسي في حضنها…
الدفء في حضنها!!
… اصابعها تمشّط شعري
فلاح الجواهري
***
… نزل الناس لفحص الامتعة وانا بينهم، وانتهت المهمة باقل من ساعة، وابتدأ المسافرون يرحلون الا انا…. ‘لم الاستثناء؟! دخلت مكتب المسؤول عن مركز الحدود، في هذه الاثناء انطلقت سيارة الاجرة تاركة حقيبتي الصغيرة. بقيت رهين الدهشتين: المفاجأة، والتهيب من التطفل في التساؤل عنها. وتطفلت فأوجزت: " ما الامر ايها السيد "؟.
– انك ممنوع من دخول لبنان. … ورحت افتش عن السبب في اول ساعات الليل… بعد بحث وتنقيب شخص امامي ما كان غائبا عن ذهني:
تذكرت اني وقبل ثلاث سنوات تقريبا، شتمت الانتداب الفرنسي والمنتدبين عليه، في قصيدة انكرت فيها ان اجد في جنة الخلد غريبا عليها، موكّلا بعذاب من فيها، اعني قصيدتي في ( عيد الزهور ) وبالحفل الحاشد المهيب، الذي اقبم في ( بكفيا ) المصيف الشهير الذي كنت فيه والعائلة كلها، ضيوفا على بيت من بيوتها ذات القباب الحمراء.
أرجـِعِي ما استطعتِ لي من شبابي يا سُهولاً تدثرتْ بالهضــابِ
غـَسلَ البحرُ أخمصيها ، ورشـتْ عبـِقاتُ الندى جـباهَ الروابي
واحتواها" صنـّيـنُ" بين ذراعيـ ـه عجوزا ً لهُ رُواءُ الشبابِ
كللتْ رأسهُ الثلوجُ ومســـتـ ــهُ بأذيالها متـونُ السحابِ
يتبع
المصدر : جريدة إيلاف 2006 الجمعة 24 نوفمبر www.elaph.com