وعي على ذكرياتي (3) : فلاح الجواهري .

الجواهري : وعي على ذكرياتي (3)
فلاح الجواهري

جعفر "… وكان للدم حرمة"
"ما نِشفْ، ما نِشفْ، دَمه يسيلْ وما نشف ْ"
يردد حشد من الجموع المتراصة وراء النعش الملفوف بالعلم العراقي والتي تسيرعلى مهلها في شارع الرشيد حاملة العشرات من البيارق ولافتات الشعارات والاكاليل… يجيبها حشد آخر بنغمة مماثلة:
" للنَجَفْ، للنَجَفْ، هدّي يا ساعي للنَجَفْ "

ويرد الحشد الاول :
" زَفِـّـتَكْ، زَفِـّتَكْ، ها اليومْ هذيَ زَفِـّـِتكْ "
 ترتفع ترجيعة مناحة مد ّوية من بحر النسوة المتماوج بالعباءات السود على الرصيفين، تعقبها هلاهل اخريات بترنيمة اخرى.: " ما نِشفْ، ما نِشفْ دَمّك يا جعفر ما نشف "
تترنّم المجموعة الاولى، وتجيبها الثانية :
" حِــنـِّتكْ، حِنـِّتكْ، دَمّكْ يا جعفر حِــنِـّتكْ "
**
اصرّ طلاب كلية الطب أن يستلموا جثمان الشهيد جعفر من المستشفى التعليمي المجاور وان يبيت في حمايتهم حتى الصباح، خوفا من اي خطوة من قبل السلطات لعرقلة التشييع الجماهيري المرتقب صبيحة اليوم التالي والذي كان اتحاد الطلبة والاحزاب السياسية قد تنادت لتنظيمه عشية علمهم بوفاة جعفر الجواهري متاثرا برصاصة مزّقت كبده،والتي لم تفلح كل المحاولات الجراحية على مدى خمسة ايام من ان تنقذ حياته.
 تناوب على حراسة الجثمان طوال الليل واعداده اللائق للتشييع مجموعة من الطلبة، هي التي خرجت به في الصباح الى حشود المشيعيين وحملت جثمانه امام مسيرتهم.
كان الجواهري ورؤساء الاحزاب السياسية وممثلي الطوائف الدينية بعمائمهم وكشائدهم وعمائر القسسة والحاخامات في الانتظار امام مبنى المختبرات والبيلوجيا في الكلية حين خرجت ثلة الطلبة
حاملة النعش، يعقبها عدد آخر يحمل اكاليل الزهور باشرطة سوداء تحمل اسماء الكليات الممثلة في مراسيم التشييع.
لم يطل الصمت المهيب الحزين الذي اعقب نزول النعش وانتظام الالاف الطلبة المشيعين خلفه، فما ان تحركت الجموع الا خطوات حتى علا هتاف احدهم :
" المجد لشهداء الوثبة "
" المجد، المجد، المجد " كررت حشود الطلبة.
" الموت للخونة اعداء الشعب.. "
" الموت، الموت، الموت "
ارتفعت عشرات اللافتات من بين الصفوف وتزايدت الاصوات الغاضبة لتصبح هديرا متعاقبا
" يسقط.!.".." يعيش..!"  " يسقط..! "
عند البوابة الخارجية كانت حشود اخرى تنتظر..وكانت هنالك لافتات..وعلت هتافات اخرى.
…ظهرت مجاميع من العامة تحمل بيارق ملونة واعلام.
تظاهرة نسائية بملابس حداد ولافتات سوداء واكاليل ورود..اصوات تهتف بصوت ارق.
..مسيرة حزينة هادئة.
عند دوّار ساحة الباب المعظّم، كانت الحشود تسّـد ثلاثة شــوارع متـقاطعة، منتظرة تقدم النعش والمشيعيين القادمين من الشارع الرابع.
…عند بدء السير في شارع الرشيد ارتفعت ترنيمة حاملي البيارق :
" ما نشف ما نشف، دمه يـسيل وما نشف "
" للنجف، للنجف……"
كان في انتظار النعش امام بوابة جامع الحيدرخانة الضخمة المشرعة صف من اإئمة الجامع العريق.
 ثلاثة أإمة مصلين على النعش تختلف ارديتهم وعمائررؤوسهم ووضع اكفهم، وتتوحد اصواتهم بكلمات آيات وادعية، يبدء بلفظها اوسطهم.. في انسجام منغّـم.
…متوحدين في حب الله.
…وحب الوطن.
وقف ورائهم رؤوس الديانات الاخرى كل يردد ادعيته وصلواته بخفوت على طريقته.
ُرفع النعش وخرج طائرا على الاكف والاصابع وارتفع نداء واحد متراص:
" لا الله الا الله.."
" لا الله إلا الله "
" والله اكبر ولله الحمد "
ترتيل حشود تتناغم.
مناحة امواج النسوة تعلو
صدى الهلاهل فوق السطوح.
.." ما نِشــَـفْ ما نِشــَـف، دَمـّــهْ يـِسيــــلْ وما نِـشــَـفْ "

وصل الموكب الى منحدر الزقاق، حيث يقيم الجواهري وحيث خرج منه جعفر قبل ان يُصرع..توقف الركب وأُنزل النعش، وحين اشار الجواهري بأن الدار خالية قد هجرها اهلوها الى النجف، ُوضع النعش برفق على الارض..مقدمته تواجه الزقاق..ترك لفترة قصيرة اعطيت فيها الاشارة للجميع بالصمت. رُفع النعش من جديد…استمرت المواكب في زحفها لتتجاوز( جسر الشهداء) حيث سقط جعفر وعشرات من رفاقه الى (جسر الاحرار) لعبوره.
كان رتل السيارات يتقدمها النعش ملفوفا بالعلم العراقي، يُجبر بين الحين والاخر على التوقف امام
مراكز العشائر في القرى والنواحي، على الطريق المؤدي الى كربلاء حيث يهرع افرادها، سابقين الموكب الى اكتاف الطريق، مطلقين الاعيرة النارية في الهواء، ومرددين اهازيجهم العشائرية..
حين يستجيب الموكب او يجبر على الاستجابة،و عند الاصرارعلى الاعتذار على عدم الاستطاعة لقبول ولائم العشيرة، يسارع افراد منها الى توزيع القهوة والماء من عشرات الدلال والاباريق على المشيعين.
 يلقي شاعر العشيرة ( حسجته ).. يهزج فيها.. يردد الجمع اهزوحته. يعود الجمع كل الى مكانه من وسائط النقل – السيارات والباصات واللوريات – وتستمر المسيرة بعد ان تُودع بأهازيج اخرى واعيرة نارية في الهواء.
***
عشائر من الجنوب والوسط باعلام وبيارق وعمم واهازيج.. حشود نسوة بعباءات سود في مسيرة طويلة..
مسيرة لطلبة (العلم ) المدارس الدينية بعممهم الصغيرة تمشي بوقار وصمت وراء شيوخ بعمم اكبر.
..تظهر مسيرة طلاب المدارس بلافتات وشعارات وهتافات :
" يسقط..! ".." يعيش..! ".." الموت لل.. ! ".. " المجد والخلود..! "
.. كانت كل محال واسواق النجف قد اغلقت ابوابها وخرج الطلبة من مدارسهم في تظاهرات صاخبة، قبل وصول الركب.
النعش يطفو ويتمايل وينحرف ويسير فوق الرؤوس في ( السوق الكبير ) المسقوف.
"  لا الله الا الله "
" لا الله الا الله "
 " الله اكبر،ولله الحمد "
جموع تردد قول المشايخ
ُيرجّعُ سقفُ الصفيح العتيق
..يعيد الصدى :
آآآآآه اكبببببر آآآآآآهأأأأكببببر.

على بوابات الصحن العلوي الشريف يقف صف من سدنة الضريح..يستقبلون النعش..يخترقون جموعا يكتض بها الصحن الوسيع..يُنزلون النعش امام بوابات الضريح الذهبيية :
" السلام على صاحب السكينة "
" السلام على المدفون بالمدينة "
" السلام على المرسل ِ المُمجد "
" السلام على ابي الفاسم مُحمّد "

" أأدخل يا الله..أأدخل يا.. أأدخل…أدخل.."
ويدخل النعش.
***
أنظر من خلال القضيان المفضضة بكراتها الضخمة الى شيوخ النجف وإمامي جامعي الحيدرخانة وأبي حبيفة يتقدمهم كبير شيوخ الجواهريين في غرفة ضريح ( صاحب الجواهر ) من جامعه  االقديم الواسع، المكتضة ساحاته ومصلاّه الكبير بالحشود الصامتة، المنصته الى ترجيع الادعية والصلوات فوق قبر رخامي اخضر لصاحب الجواهر.
…اعلم انه لايرقد تحت التربة التي تلي ذلك الرخام بل عميقا في سراديب المدافن التي يعلو بعضها البعض، تحت الرخامة الخضراء.
(..هناك حيث تبرزجديلة امي في السرداب الاول، معفـّرة فوق الهضبة الترابية الصغيرة التي تفترش الجسد البالي.. ام انها ثلة التراب تملأ عظام هيكلها العظمي الخاوي؟!)
.. تنتابني قشعريرة تعقبها موجة ساخنة.
ابتعد عن مربعات الشباك الفضية بعد ان القي نظرة اخيرة على الاكاليل فوق المرمرة وحولها وعلى صورة الشهيد جميل المحيا بابتسامته المشرقة، المعلقة بجانب شيخ بعمة كبيرة ووجه جاد..تزداد ابتسامته اشراقا :
" احزر هالحزورة وخذ عشرة افلاس ! "، قالها من وراء الصورة واختفى.
من احد الازقة المؤدية الى الجامع والمتراصة بالجموع لاتزال تسمع ترنيمة وإن خفتت :
" ما نِشـَفْ، ما نِشـفْ..دَمّـه َ يِسـِـيل وما نِشـفْ "
*  *   *
يترجل شاب بهي الطلعة اليف الوجه مشرقا بابتسامة عريضة. ويبدأ السائق في مساعدته بانزال الحقائب والسلال والصرر من السيارة الملطخة بالاوحال الجافة والاتربة.
يبلغك الخبر على الفور، وانت في مكتبك بجريدة ( الرأي العام).
..تهرع وعلائم الفزع تعلو وجهك..عيناك نصف زائغتين.
..بقلق تقطع الامتارالقليلة المعدودة بخطواتك الواسعة، وكانك تريد عبور مفازة محرقة على عجل.
اراقب من مكاني تبدل ابنسامة القادم من السفر وذبولها..
ذهول و حيرة..تم خيبة امل.
…يقف نصف مشلول عند العتبات القليلة المتحدرة الى الزقاق وانت تتقدم تجاهه بغضب مدمدما بعبارات يتعسـّر علي فهمها.
قبل لحظات كنتُ قرب المسافر المترجل بضجيجي وقفزاتي وبالفرحة الطفولية الباهرة احاول المساعدة في انزال الحقائب والامتعة التي أنوء بها لاشبار.
كانت لحظات النشوة تشغلني عن فهم الموقف الغريب واستيعاب المفردات إلا عبارة واحدة كانت تتردد " شكو عندك ؟"…غير اني بدأت ادرك عدم الرضى، بل وحتى الغضب العارم الذي كان بديلا عن الاحتضان وقـُبل الترحيب وفرحة اللقاء…" لمَ قدومك الآن " ؟!…" لمَ الآن ؟ ".
لم يكن القادم من سفره إلا عمي في اجازة جامعة دمشق لنصف السنة الدراسية، ولم يكن ذلك الثائر الغضوب إلا والدي الذي لم تخفف المسافة المقطوعة من شدة هياجه.
الاثنان يواحه احدهما الاخر، ولا يزال العتاب شديدا والغضب عارما.
وها انا، وقد تحول ضجيجي وضحكي الى نصف فزع، ارى الشاب الطويل البهي المرح قبل قليل، ينفجربزوبعة بكاء هستيري، ومستديرا على عقبيه بحرقة واذى واحتجاج، محاولا الامساك بمقبض باب السيارة التي لا تزال واقفة،و هاماً بالصعود والعودة.
وهنا تندفع انت نحوه محتضنا اياه بشدة، وهو يقاوم باصرار محاولا الافلات من كماشتي ذراعيك والصعود الى السيارة مكررا " الآن اعود! "…" اعود! ".
تظل انت ممسكا به بشدة، ثم ضامّا اياه الى صدرك. رأسك يعلو هامة رأسه الغائص في صدرك العريض وهو يختض ببكاء عنيف مصحوب بحسرات عميقة وهو يكرر " اعود!… نعم اعود! ".
اخذت تقبل رأسه، تطلقه لحظة من اسارك لتعود محتضنا اياه، وها انتما صامتان برهة، يقف احدكما بمواجهة الاخر، الاول بابتسامة دامعة والثاني بمعالم ممازحة ومراضاة، وكان هنالك من يشاهد عن قرب من اهل الزقاق وآخرون ممن يمرون على رصيف شارع الرشيد الذي تقفان عليه، متطلعين بفضول الى الموقف الغريب. كانت يمينك تحتضن هذا الشاب المتراخي الآن وانتما تنزلان سلالم الزقاق وكانك تخشى ان ينزلق طفلك الصغير فيؤذي نفسه، في حين راحت يداك اليسرى تنفـّض بين لحظة واخرى عنه غبار السفر العالق على ملابسه.
***
حدث هذا بعد يومين فقط، على زخات الرصاص، ولعلعة صوتها المفزع، والذي كان مدير مدرستنا الابتدائية يمر خلالها على الصفوف مهدئا ومحذرا وناصحا في الوقت ذاته، ثم 
بريشة فلاح الجواهري ليقف قرب باب المدرسة مراقبا ومنظما لخروجنا بمجاميع صغيرة، موصيـّا ايانا بأخذ الازقة دون الشوارع مسارا الى بيوتنا. لكن فضول الخوف اقوى من اي نصيحة وتوجيه…وها انا عند رصيف شارع كبيرمشرف على ساحة ( حافظ القاضي ) ارى ما لم استوعبه كاملا…. بخوف التصق بحائط مجاور، متحاشيا تقافز وتراكض مجامبع من الشباب ما بين الشوارع والارصفة…البعض لايزال حاملا لوحة قماش مكتوبة ومرفوعة غلى عودين، صارخا بصوت عالٍ " يسقط.. ".." يعيش.. ".. " الموت لـ.."، في حين قفز آخرون على الرصيف والتفتوا مترقبين ما يحدث خلفهم، على حبن ركضت مجاميع اخرى تحمل لوحات قماش نصف مطوية الى زقاق قريب…وها هي موجات تتراكض بشكل اسرع مارة على مقربة من موقعي من الجدار، وهي توجـّه بعضها البعض الى الممرات والازقة القريبة، تتبعها مجاميع وافراد من الشرطة ببنادقها ومسدساتها، عابسة الملامح مطلقة كل انواع عبارات السباب المقذع وهي تجري وراء هذه المجموعة او تلك. و بين حين وآخر كانت تسمع اصوات اعيرة نارية من قريب وبعيد. 
لا اعرف ما السبب في انني، وفي وضعي المفزع هذا، كانت احاسيس التعاطف هي مع هؤلاء المتراكضين من الشباب المحمرة وجوههم بالانفعال، والذين كانوا يصرخون " يسقط.." "يعيش."
بل ولقد حضرت تشييع احدهم بعد ان سقط برصاص الشرطة، وكنت اقف الى جانب ابي على حافة القبر حين كان الجسد الملفوف بالكفن الابيض يُنزل الى الحفرة الرهيبة، وكانت هناك اصوات تعلو مرددة يسقط.. يعيش.
لم افهم رهبة الموت والقبر والكفن في ضوء الظهيرة داخل المقبرة، ولكن الفزع الليلي عند محاولة الاخلاد الى النوم، بعد رقاد جميع من في البيت كان اسطوريا.
..كانت حكايا الجن السابقة التي سمعتها تحرك كل الطناطل والعماليق والاشباح، وكان عزرائيل يدور في ظلامات الغرفة..عيناه مدورتان، جامدتان،ضبابيتان كعيون الاسماك، حاملا شباكه السوداء بيمينه وشوكة ضخمة مدماة بيساره.
… يبرز ملء العين والسمع في الظلمة منكر ونكير بهراواتيهما واقلامهما احدهما يعدد الذنوب ويسجلها، علي حين يقوم الاخر بتهشيم الجماجم والاضلاع ويتبادلان مهمتيهما بين الحين والآخر منعا للتعب.
قفزت من سريري وانرت الغرفة واندسست بحذر الى جانب اخي الصغير.
***
مارش عسكري يليه المذيع الجهوري منبها ًعن قرب اعلان نبأ هام…الموسيقى المعزوفة تثير الحماس تماما كتلك التي كنا نسير على انغامها منتفخي الصدور في ساحة الكشافة مزهويين بملابسنا ( الكاكية ) بقياطينها واشرطتها اللماعة. كنت ادورعلى انغام المارش، في رواق البيت الشرقي المفتوح ذو الاعمدة مرددا اللحن ذاته بصوت عالٍ وماشيا مشية العساكر متعاليا متباهيا…حقا انه لشيء جميل ومثير وبطولي. كان اللحن يتكرر بعد كل اعلان مجدد للمذيع " بعد قليل نذيع عليكم نبأ ً هاماً !! ". وحانت لحظة " النبأ الهام " وصمت البيت. وصمتت الحارة. وكأن الكون كله قد صمت. كان كل من في البيت يجلس بتوتر وترقب وتحفز.
…وبدأت التفاصيل تعدد الكثير من الاشياء الجميلة حقاً والفخمة. وها هو الصوت الجهوري الدافيء يتحدث عن القوة والمنعة والدفاع ضد العدوان المرتقب، وعن حماية الوطن المقدس، وعن طائرات طالما حلمتُ بقيادتها، وعن مطارات وجيوش كنت اتخيل قادتها ومارشالاتها بأوسمتهم الذهبية اللماعة…عن صديقتنا بريطانيا العظمى، التي كانت اميرتها ولية عهد التاج الملكي الجميلة اليزابيث و التي كنت اراها على شاشات السينما بثيابها المزركشة الييضاء المحلاة بالجواهر، حينما كان الكبار يصطحبونني على مضض بعد اصرار وبكاء، والتي كنت على يقين – اثناء مشاهدتها في الاخبار السينمائية – من أنها ستكون زوجة المستقبل دون اي منازع. ( حزنت لاحقا حين علمت انها خانتني ولم تنتظرني واختارت شخصا آخر اسمه دوق وندسور )

رغم كل ما كان يسرده المذيع من كل هذه الاشياء الجميلة، كان غريبا جدا ان الحظ ان الوجوم ومعالم الالم والرهبة هي التي كانت تعلو وجوه اهل البيت. وينتهي السرد لمفصل ويعزف الراديو المارش العسكري المثير فانطلق الى الرواق لاواصل استعراضي الصاخب عبره، وكلما اجتزت باب غرفة الجلوس لاح لي منظر الجميع بوجومهم وصمتهم.
…تخف خطواتي…اجد نفسي في النهاية " سخيفا " فاتوقف. كنت على يقين مسبق، من انهم لابد سيطربون لتلك النبرات والعبارات القوية الثابتة وهي تتحدث عن كل ما يثير ويبعث على الزهو…طائرات،طيارين…مارشالات،دروع…صداقة بريطانيا العظمى…العظمى !.. لابد ان هنالك شيئا على غير ما يرام…تعبير ذو وقع غريب يتردد على افواه الجالسين…تسمية يبدو انها تستثيرهم…شيء جديد عليّ كان اسمه " معاهدة بورتسموث " لا اعلم لماذا لم تغمض لي عين الى ساعة متأخرة في تلك الليلة.

الجو في البيت مشحون بأشياء لم اعهدها فيه سابقا.  فرات وجعفر يعودان متأخرين، ومن غرفتنا التي انام فيها مع اخوتي الصغار واختنا الكبرى، اسمع وبرهبة صوت ابي يتصاعد وهو يحذر، ويتوعد اخي وعمي جعفر إن هما خرجا غدا من البيت…يحاول ان يأخذ عهدا خاصا من جعفر…يجيبه عمي مازحا " آني وين وها القضايا التعبانة وين ؟! "…حين يستمر الوالد في ثورته،اسمع جعفر بنبرة مازحة من جديد " يا خويّ َ لا تسويها جديات…د جيب فد بوسه…بوسة لاخوك الصغيرون وروح نام…لاتقلق روح نام ! " ثم 
الجواهري يلقي بين حشود الجماهير (1948):
 "أتعلم أم أنت لا تعلم!"
 
يعطيه وعدا اضافيا بأنه هو نفسه من سيمنع فرات من الخروج لو حاول ذلك. كل ذلك المشهد اراه واسمعه من الشباك ذي القضبان الحديدية المطل على الرواق والغرف المقابلة. يتصاعد بعدها لغط وهمس وحركة متزايدة بين غرف الوالد وجعفر وفرات…. تستمر تفاصيل هذا المشهد لفترة غير قلبلة من ليلة السابع والعشرين من كانون الثاني 1948. يهدأ البيت بعدها هدوءا يبعث فيّ نوعا آخر من الخوف غيرخوف الطناطل والاشباح والجن الذي يهاجمني في الليالي حين ارقد في سريري انتظاراً لاغفاءة مرتقبة.
***
كم هي جميلة عطل المدارس الفجائية وتناول طعام الافطار مع الجميع دون اجبار على الغسيل بالماء البارد واللبس على عجل وحمل ( عليجة ) الاثقال بكتبها ودفاترها على الظهر والتي كانت عندي عنوان اذلال وعبودية.
..ها قد حلت تلك المناسبة الجميلة غير المتوقعة…لقد عُطلت المدارس…آه حبذا لوكان هنالك في كل شهر معاهدة !!

جو البيت كان مشحونا بالصمت على غير العادة…الخالة ام نجاح تجلس قي ركن غرفة الجلوس المزودة ببعض التخوت والبسط الممدودة.
تجلس متربعة وامامها السماور وصينية اقداح الشاي…لا تستطيع ملامحها اخفاء زوبعة القلق حتى ولا عليّ…

صمت حزين. جعفر يجلس على التخت المجاور مرتديا كامل ملابسه استعدادا للخروج… الوالد على غير عادته قد غادر عند الابكار.
آخذ مكاني واجلس بهدوء حذر… لا اجسر على اي حديث حتى ولا على طلب الافطار.
– الله يخليك!…الله يخليك تكفى الشر ولا تطلع اليوم!…لخاطر الله اسمع كلامي !
– والله للحمام…يحاول اقناعها، بانه لم يغتسل منذ قدومه…بعرض عليها صرّة ملفوفة.
– اي نعم…والصرة معباية مناشير!، تجيبه ساخرة.
تتوسل اليه مرة اخرى ان يتكفى شر الـ" الشيطان اللي ما مات "، ويبقى مع فرات في البيت.
…يغير الحديث ملطفا الجو بمزحه ونكته، ورواية احداث طريفة مرت عليه قبل حين.

كان قدوم جعفر الينا بين الحين والاخر مصدر مرح وضجيج وتنظيم العاب جماعية وبالطبع يصحب ذلك فوضى مثيرة صاخبة. وكنا نحن –اصغر من في البيت – نجد، وبشكل دائم، السبيل الى ان " يتحفنا " ببصعة ( آنات ) او حتى عشرة فلوس كاملة، متظاهرا بانه خسر هذه اللعبة او تلك المباراة امامنا..افلاس كان تكفي لشراء اشياء، واشياء، واشياء.
فجأة وبعد عبارتين لبقتين او ثلاث مع ام نجاح خرج وكأن الامر طبيعي تماما.
– ياربي مررهذا البوم على خير.. يا رب !!…يا سميع، يا مجيب !
كان دعاء الخالة ام نجاح يعلو بصوت متحشرج رافعة كفيها صوب السماء.
عبود، حارس المطبعة العجوز يلقي تحية الصباح ويسأل عن جعفر وفرات، فهو مرسل من قبل " الاستاذ " للجلوس عند عتبة باب الدار لمنع خروجهما.
بعد التحايا والاستفسار المتبادل عن صحة الاهل والاولاد وسير الدنيا العجيبة، يسحب عبود احد الكراسي ليجلس عند مدخل الدار بثقة، مخرجا علبة تبغه المعدنية المسودة، لافـّا سيجارته بهدوء واطمئنان عميق.
ارى فرات يتسلل كالقط الحذر عبر سلالم السطح…اتبعه، فيشير اليّ بسبابتة على فمه علامة الصمت، فألتزمه.
يتسلق بمهارة ستارة السطح الفاصلة بيننا وبين جيراننا ويختفي وراها.
اعود بحذر وسكون الى رواق الدار فرحا بلعبة الاسغماية المثيرة تلك…ها انا الآن مؤتمن على اسرار هذه اللعبة الجديدة.
ينكشف السر بعد فترة قليلة، ويرتفع صوت الخالة بالبكاء والشكوى الى الله عاليا يعقبه دعاء موثر حار…" ربي عديها على خير هذا اليوم…يا رب ! ".
يخيم صمت ثقيل على البيت.
يمر الوقت متباطئا…تنفجر اصوات رصاصات قريبة مدوية مرعبة…اقفز دون وعيّ مني، لانبطح تحت طاولة الطعام في غرفة الاسقبال…يتواصل رعيد زخات الرصاص…ينقطع فترة ليعود من جديد مقتربا آنا ومبتعدا آنا آخر…احس بالخجل من خوفي اللعين هذا ومن مكان الجرذ هذا تحت طاولة الطعام…اخرج وابحث عمن يتاوجد في الدار…تاخذني الرهبة حين اجد البيت خاويا…او هكذا كان يخيل لي.

تدب حركة قلقة في الدار، يكثر اضطرابها مع ازدياد زخات الرصاص وتزايد نعيب صفارات سيارات الاسعاف المقتربة حينا والمبتعدة في حين آخر.
…لا غداء هذا اليوم…الغريب ان لا جوع ايضا.
يخلو البيت من الجميع… الكل يتراكض عبر الزقاق صوب مدخله على شارع الرشيد لمشاهدة حشود المتظاهرين، وحين يلعلع الرصاص تندفع موجة من النسوة الهاربات الى اعماق الزقاق على حين تعلو زغاريد الاخريات ممن بقين عند مدخل الزقاق، لبث الحماس في قلوب الشباب المتظاهر غير العابيء بالرصاص.
تخف اصوات الطلقات وتتباعد عند المساء. ويعود الوالد منفعلا محمر الوجه ويبدء وصفه بانفعال واثارة لمشاهد احداث اليوم مما سمعه ومما رآه بعينيه، وكبف انه وبعض من النواب كانوا يرقبون من مبنى البرلمان المطل على ( الجسر العتيق ) سقوط الضحايا وكيف كانت ردة الفعل الغاضبة لدى هذه المجموعة من اعضاء المجلس النيابي والبالغة واحدا وعشرين عضوا، والتي سارعت الى تثبيت استقالتها من المجلس وادانتها للمعاهدة والجريمة المرتكبة بحق المتظاهرين بوثيقة مكتوبة، وكيف انه كان اول اسم ادرج في قائمة وثيقة الاحتجاج والاستقالة تلك.
كان في حديثه نبرة من الزهو والتفاخر بملاحم وبطولات الشباب الغاضب، ويقينه من انتصار الشارع الثائر في نهاية المطاف.
…فجأة ينبري للسؤال عن جعفر وفرات، وحين يعلم بغيابهما عن المنزل يبدء بإنزال غضبه على الجميع دون استثناء.
…يظل يتردد بين مكتب الجريدة على بضع خطوات، وبين البيت :
– ها ماكو خبر من جعفر ؟..ماكو خبر من فرات ؟
ويتكرر السؤال مرة هنا، ومرة هناك.
حمدا لله لقد حضر فرات اخيرا عند المساء.
…لكن ليس هنالك خبر عن جعفر.
***
– تلفون ابو فرات !
بهرع الى مكتب الجريدة، ليعود " جاسم " مراسل الجريدة منفعلا ويخبر من في البيت بان الجواهري قد توجه الى " المستشفى المجيدي "، لاصابة جعفر اصابة بسيطة، كان من المفضل نقله اثرها الى المستشفى.
يهرع الجميع باتجاهات مختلفة، الى غرف متفرقة من الدار..تـُرتدى العباءات،و رغم تكرار جاسم في وسط الدار " الاصابة بسيطة يا ام نجاح !…والله الاصابة بسيطة يا اميرة ! " لكن الجميع يتسابق في الخروج.
تخلو الدار مرة اخرى الا من الخالة " طليعة "، التي كانت تجلس ممسكة مسبحة طويلة سوداء، متمتمة بالادعية ومن آن لآخركان الصوت يعلو…" يا الله !"… " يا حسيب ! "…" يا مجيب "…" يا رحيم "…" ياعظيم ".
***
امس كنت في رواق المستشفى النظيف اللامع انتظر مع الاخرين خروج الطبيب من نوبة الفحص المسائية. وخرج ملتمع الوجه والملابس البيضاء يبتسم قائلا : " كل شيء على ما يرام…انشاء الله هنالك تحسن اليوم ".
بدأ الجميع بالدخول وتبعتهم بحذر ورهبة…وعند عتبة الباب المفتوح توقفت.
بعد لحظات من قيام الجميع بتقبيلهم له واحدا إثر واحد، وبعد ترتيب الاوراد في اوعيتها، انتبه الى وقوفي بعيدا فاشار اليّ براسه، ثم بصوت ضعيف واهن وابتسامة متعبة " تعال يمي ابو حسن…تعال هنا ! "
كان شحوبه شمعيا، لكن وجهه ظل يحمل تلك الوسامة والوداعة التي عهدتها فيه على الدوام…كان قد طلب صبيحة ذلك اليوم ان يُحلق له وجهه وان تبدل ملابسه.وكان قد سُمح له لاول مرة بتناول كمية قليلة من الاغذية السائلة بعد عدة ايام.
اقتربت بحذر ورهبة. ابتسمَ مشجعا وحاول ان يمد اليّ يده…امسكت بها، فشد باصابع حاول جهده ان يضع فيها كل قوته، كعادته كل مرة حين كان يعطيني كفه للمصافحة، ايامها كان يهتصر كفي الصغيرة بشدة تثير ألمي واعجابي في الآن ذاته، ولتمتد بعدها يده الى جيوبه لامنح عشرة فلوس كاملة.
لم يكن الاهتصار هذه المرة وللأ سف مثيرا للألم ولا للاعجاب، كان الاهتصار ضعيفا للحد الذي اثار فيّ موجة من الحزن غمرتني بشكل مفاجيء…غالبت نفسي الا انطلق في موجة من البكاء.
…لاعادة البسمة، اشار الى جدتي ان أ ُمنح عشرين فلسا…" قرانا كاملا ".
…لم احس بأية فرحة لهذه المكافأة الضخمة.
…لا اعلم لماذا غمرني حزن ووحشة شديدين عند استلامها من يد " حبابتي " المرتجفة.
كان الجميع يتظاهر بالمرح وبالتشجيع إلا " الحبابة " جدتي، التي كانت كل حركاتها دالة على القلق الظاهر، الذي تحاول جاهدة إخفاءه بالتشاغل بترتيب مفرش الطاولة او ابدال مواضع اقداح الماء فوقها او فتح وغلق خزانة الملابس الصغيرة في ركن الغرفة…كان فمها وهي تتنقل باعياء وبطء هنا وهناك لايفتر عن ترديد الدعاء والانتخاء باسماء كل الائمة والصالحين.
***
حين اجتزنا بوابة المستشفى الى الشارع، وقفت جدتي لحظة صامتة، مطأطئة الرأس…وقف الجميع بجانبها بصمت خاشع.
…تركت مداسيها الاسودين البسيطين على رصيف الشارع…نزعت عن ساقيها جوربيها…تركت " شالها " الاسود يسقط على كتفيها وعباءتها الى الارض…فكت ازرار قميصها عند الصدر وامسكت بحاشيتيه المفتوحين ثم رفعت رأسها الى السماء " يا ربي..يا سميع، يارحيم، يا مجيب
…غوثك وعونك يا الآهي…غوثك وعونك يا الله، بجاه الحبيب المصطفى…بجاه أأمتك الصالحين!"
" بجاهك يا موسى بن جعفر…بجاهك يا بو الجوادين "…ثم انطلقت بلهفة المنكوب للفرج القريب، حافية، حاسرة الراس، عارية عن عباءتها، مفتوحة الصدر…" جيتك يا بو الجوادين..!"،"جيتك يا موسى بن جعفر ! "
***
الساعة الثامنة مساءً.
نداء تلفوني الى مكتب الجريدة يـُبلـّغ مضمونه الى من في البيت على عجل…يبدأ تخاطف العباءات ويهرع حميع من في الدار من الكبار الى المستشفى…البيت يخلو من جديد.
…حزن ووحشة يهصران القلب…لا مكان لخوف الاشباح هذه المرة رغم الظلام ورغم خلو الدار.
لا اغفاءة مرتقبة ,لا نوم. الوقت يقارب منتصف الليل وانا امتد في فراشي منذ ساعتين مترقبا.
…تتصاعد صرخة الم رهيبة ممزقة سكون الليل يتبعها نداء استغاثة حاد… صوت يطلب الغوث، يناشد الرحمة، يستنجد، وهو من دون كل الاصوات المتداخلة المتعددة يصل الى سمعي واضحا نافذا الى اعمق اعماقي.
" يا يمـّه…يا حْـبْــّيـْبـي يا يمـّه !"
قفزت ُ…هل قفزت من السرير ام اني قفزت من الطابق الثاني، لا اعلم !…غير اني ومع هذا النداء الممزق كنت اقف عند نهاية الرواق القصير.
كان الباب مشرعا وحشد من النسوة بين متربع ومتكيء وواقف، ومن ينود، ومن يلطم وجهه.
لم يسترعي انتباهي من بين هذا الحشد إلا تلك الكتلة السوداء المتموجة المتلوية، والتي كانت تمتد منها ذراعان نحيفتان تمسحان الارض الحجرية بحركة نصف دائرية.
…تعود هذه الحركة مرة واخرى ومرة ثالثة بصمت… فجأة ينطلق من تحت هذه الكتلة المتلوية السوداء صوت مفزوع يشبه الحشرجة " يا يمّه…يا ولـْيـدي…يا حبيبي يا يمـّه " ثم يرتفع وجه شمعي المعالم،جاف الحدقتين، وسيعهما، ويلف الجمع بنظرة زائغة يمينا وشمالا دون ان يلحظ شيئا مما حوله. يعو د الرأس لينتكس وينزل متحدرا و متلمسا وماسحا الحجر البارد، وتعود الذراعان الى الحركة نصف الدائرية ذاتها وكأنهما تبحثان عن تراب يحثى على الرأس.
…حين لا تـُجدي هذه الحركة الباحثة، يرتفع نصف الجسد وتتحرك الذراعان لتطرقا بمجامع كفيهما بقوة وعنف على الصدر الضامر الحاسر الذي نطت اضلاعه.كان صدى تلك الطرقات يعلو على نحيب النائحات الاخريات.
لقد كانت الكفين المعروقتين تمتدان هذه المرة، باحثتين باصرار عن شيء مضاع تحت اعلى الرداء الممزوع…تبحث عن ذلك النابض بعنف بين الاضلع النحيفة تريدان اقتلاعه.
***
اتعلـمُ ام انتَ لا تـعـلـمُ        بأنَ جِـراح  الضـحايا فمُ
فمٌ ليسَ كالمُدعي  قــولة ً       وليسَ  كآخرَ  يســترحمُ
يصيحُ على المدقَعينَ الجياع        اريقوا دمــاءَكمُ تُطعموا
فقلْ  للمقيم ِ  على  ذلــهِ         هجيناً يُســخَّرُ  او يُلجمُ
تفحمْ لُعنتَ ازيزَ الرصـاص         وجربْ من الحظِ ما يُقسمُ
فاما الى حيثُ  تبدوا  الحياة         لعينيكَ مكرمةً تـُكــرَمُ
واما الى جـــدثِ لم يكنْ         ليفضـــلهُ بيتكَ المظلمُ

***

اخي جعفرا يا رواء الربيـع      الى عفــنٍ باردٍ يُســلمُ
لثمتُ جراحــكَ في " فتحةٍ "    هي المصحفُ الطهرُ اذ يلثمُ
وقبلتُ صدركَ حيثُ الصميم      من الصــدرِ منخرقاً يُخرمُ
وحبث تلوذُ طــيورُ المنى      بهِ، فهي مُفــزَعةٌ ، حُوَّمُ
اخي جعفراً لا اقول الخـيال      و ذو الثأرِ يقظـانَ لا يحلمُ
أرى أفقاً  بنجيع ِ الدمــاء      تَنوَّر و اخــتفت الأنجُـمُ
   1948

***

دَبـّتْ عليكَ زواحـفُ الاعـوام ِ     وبَرئتَ من جُرح ٍ وجُرحيَ دامي
وبرئتَ من هزء الحياةِ ببعضـها      وتضــاحُك  ِالايام  ِبالايــام ِ
عشرون!! طالتْ حيثُ مرّت قبلَها      خمسـون وهي قصيرةُ الارقام ِ
شوهاء  غصّتْ  بالفظائع ِ كأسُها      وأمَرهُنَ فظــاعة ُالاوهــام
 1968ِ
وجاءت معاهدة ( بورتسموث ) الجائرة بحق العراق والتي تنال من هيبة الوطن العراقي لتكون الشرارة التي نزعت صاعق الفتيل وصعدت غضبة الجماهير لتحتشد في الشوارع بمظاهرات صاخبة اكتسحت بها كل قوة الحاكمين واسلحتهم وسلطاتهم العاتية…

لقد ثار طلاب كلية الحقوق ضد المعاهدة وبنودها ومشبوهية القائمين على توقيعها وهاجمت الشرطة هؤلاء الطلاب واوقعت عددا من الجرحى في صفوفهم…
وما لبث الحماس الثوري وردود الفعل الطائشة من الحكومة ان جعل من شوارع بغداد بركانا مهيأ ً للانفجار في كل لحظة، حيث انتشر الطلاب ومعهم جموع غفيرة من المواطنبن في كل حي وشارع وهتافاتهم تشق عنان السماء.
وكنت قد اصدرت جريدتي( الرأي العام ) المسائية في نفس اليوم وهي تحمل مقالا افتتاحيا خطيرا ومثيرا، احمل فيه على تجاوز رجال الشرطة للقانون واقتحامهم مقر الكلية وسقوط الجرحى في ساحتها.
قيل هذا الموقف كنت احد المعارضين في احدى جلسات مجلس النواب لبنود هذه المعاهدة الظالمة الجائرة التي تكبل العراق لمدة خمسة وعشرين عاما بقواعد عسكرية وارتباطات تخدم بريطانيا طيلة هذه المدة، ولا يحق لاحد الطرفين – بريطانبا والعراق – الاخلال ببنودها دون موافقة الطرف الآخر، ومعنى ذلك ان يبقى العراق مكبلا مدى الابد ما لم يفرج عنه الطرف الاقوى…اي بربطانيا نفسها.
المهم ان الجماهير المنتظرة شرارة الانفجار اكتسحت الشوارع والساحات واشتد غضبها في الليل وتمردت على كل اشكال القمع وتحدّت ازيز الرصاص والطلقات الحية القاتلة ودفعت امامها رجال الشرطة هاربين ليختبئوا في الجوامع والمدارس.
لقد كنت في المجلس النيابي صبيحة ذلك اليوم المشهود، حين ابتدأت (معركة الجسر ). ومازلت اتذكر حتى هذه اللحظة، المهزلة التي كانت تتم فصولها في جلسته الاخيرة حيث كان عبد العزيز القصاب – رئيس المجلس – فرحا مرة وساخرا مرة، ومتشفيا ثالثة، وكان لسان حاله يقول : ساكون البديل المنتظر، او انه كان يؤمل نفسه بمنصب جديد في المرحلة الجديدة، وهي الحالة التي كانت الطبقات الانتهازية تتصيد خلالها الفرص، غير عابئة بدم الشباب ولا بتضحيات المخلصين واندفاعاتهم ولا حتى بمستقبل الوطن نفسه.
وفي ذلك اليوم ايضا كان ابني فرات، وهو ابن الثامنة عشر مندفعا متهورا شأنه شأن كل من عاش في بيت الجواهري، كذلك كان اخي جعفر الذي جاء بصورة مفاجئة الى العراق من دمشق لمجرد ان يموت. لقد كانا يشكلان لدي قلق المحبين وخوفهم والرعب الداخلي من الآ تي.
وحين اشتد صوت الرصاص في الشوارع، وكنا ما نزال في المجلس النيابي، وجدت نفسي مندفعا خارج المجلس لاصل الى الشارع برغم منع الحراس لي ّ ورغم التماسهم بعدم الخروج وبرغم تحذيرهم من الرصاص المتساقط على الجدران.
واخترقت الشوارع والرصاص يتساقط حولي يمينا ويسارا بكل جرأة لاصل البيت، وبكل لهفة وريبة سالت زوجتي وكأنها المعنية بكل شيء : " هل جاء جعفر ؟ "…
قالت : لا
قلت باللهجة الدارجة :" هسه يجيبوه "، اي الآن سيأتون به.
ولم تمض فترة طويلة على توجسي وقلقي وترقبي، حتى سمعت نبأ يقول :
لقد وقع جعفر صريعا على الجسر… وصدقت نبوءة الشاعر، ويا لمرارة نبوءات الشعراء.
بعد فترة قصيرة جدا كنت على باب المستشفى الملكي لارى جعفر محمولا وهو غارق بالدماء وكان ما يزال على قيد الحياة…رأيته وليت صورته هذه تستطيع ان تغادر ذاكرتي.
وقتها تذكرت جعفرا وانا اقول له على الفطور بعد احتضان وتقبيل وقبيل مغادرتي البيت :" لك الحق يا اخي جعفر ان تشارك فيما يشارك الآخرون وان تعبّر عن عواطفك ومشاعرك الوطنية وأن تكون مع من تقع على اكتافهم مهمات الثورة ضد الخيانات والتخاذل والتآمر. ولكن ليس لك الحق في ان تدفع بنفسك الى الموت كالمنتحرين…وليس لك ان تواجه الرصاص بصدرك الاعزل فالحياة لامثالك اجدى…والبقاء لشبابك امضى "…غير ان ضراعتي هذه لم تجد، ورجاءي هذا لم يثمر…وتعقلي هذا لم يستطع ان يطفأ النار التي تشتعل ثورية في داخله او تقلل من الحماس الذي كان يجري في عروقه…وابتدأ جعفر مرحلة الصراع مع الموت…صارعه بكل ما كان يملك من وعي، صارعه بكل ما كان يحمل من ارادة، صارعه بكل مايملك من شجاعة.
وكان طبيعا والجرح قتال ان يعجز الاطباء الكثيرون وفي مقدمتهم شيخ الاطباء ( الوتري ) والجراح الشهير( نجيب اليعقوبي عن انقاذ حياته.
وما زلت ائذكر انه قال لي وهو مؤمن بأنه سيفارق الحياة : كل ما اريده منك يا اخي ثلاثة ابيات في رثائى…ومات جعفر…
قضى جعفر نحبه…كانت آخر كلمة يلفظها وانا اقبله قبلة الوداع " امي ". ناديت على التعيسة امه التي كانت تسهر واخته الوحيدة معها طيلة ليل ونهار الايام السبعة الذي قضاها في المشفى، وقلت لها جعفر يريدك.
جاءت وقبلته واظنه قبلها وكانت آخر ومضة من حياة هذا الشاب.
اذيع النبأ لتزحف الجماهير صبيحة اليوم التالي وعقب اذاعة النبأ وتوزيع الملصقات، تزحف بعد ان نظمت الاحزاب الصفوف المواكبة للتشببع. واحتشدت الجماهير الغاضبة والجماهير الموالية لللاحزاب وجماهير كل المؤمنين بالقضية الوطنية ودماء الشهداء، لتشهد بغداد ما لم تشهده إلا يوم انتحار السعدون حين قلت :
نِصفان بغدادٌ فنصف مَحشرٌ     ساحاتهُ اكتظـّتْ ونصفٌ بلقعُ
احذرْ لسانيَّ ان تكونَ مقالة ً     ليستْ  تليقُ بهِ فانكَ  تـُقطعُ

فمن الجانب الغربي منها من الكرخ حتى الكاظمية وعبر الاعظمية زحفت المواكب ووصلت الجانب الشرقي من نهر دجلة لتصب جميعها في جانب الرصافة عابرة جسر الاحرار الواصل بين الجانبين الى حي الصالحية حيث تحرك موكب التشييع لجنازة الشهيد الى مقره الاخير بجانب آبائه واجداده في مقبرة آل الجواهري بالنجف. وكانت الجنازة تكبر وتكبر والنعش يمر وتنضم الى المشيعين وفود المستقبلين في المحمودية والمسيب والحلة وكربلاء…
واصل الموكب طريقه الى النجف وفيه كل الطلائع الثورية للشباب، وفيه نماذج من الكهول والشيوخ وكان بوما مشهودا في كل تاريخ النجف، حيث اغلقت الاسواق وعطلت المدارس وغصت الشوارع بالجماهير المستقبلة وتناثرت اكاليل الورود من كل حدب وصوب وعلت هتافات الجماهير وبكل العاطفة المتوثبة وصدق المشاعر تراكضت الجموع الى المقر الاخير للشهيد جعفر
ومن مفارقات الاحداث ايضا ان والدة الشهيد جعفر، وهي المتعبدة المؤمنة بالله والقدر، المحبة كثيرا لابنها المدلل المجنهد الطموح، المقاتل، البائس، اكتفت بضربة اوضربتين على ركبتيها ليس إلا، حين عرفت ان جعفر قد فارق الحياة، ومن يومها وحتى يومها الاخير وهذه الوالدة الطاهرة ظلت تفترش الارض وتنام على سجادة الصلاة وكانها تريد ان ينطبق واقع حالها على الامر الواقع، اي تنام على الارض التي يرقد قريبا من سطحها جعفرمهما يكن من امر. (الجواهري "مذكراتي") .


المصدر : جريدة إيلاف 2006 السبت 18 نوفمبر www.elaph.com