( يومان على " فارنا " )..
* كان الشاعر قد تلقى دعوة من اتحاد الأدباء البلغار لزيارة بلغاريا فلباها، وأمضى أثناءها يومين في فارنا، أجمل مصايف بلغاريا.. فكانت هذه القصيدة.
* نشرت في جريدة " الثورة " العدد 1522 في 2 آب 1973.
ما لهذي الطبيعةِ البكرِ غضبى
![]() أَلها أن تثور نَذرٌ يُوفّى
![]() أَبْرَقَتْ، ثم أَرْعدت، ثم أَلقت
![]() حِمْلَها تُوسِعُ البسيطةَ قَصْفا
![]() زَحَمَتْ كلَّ ثَغْرةٍ .. واستباحتْ
![]() شُرُفات البُيوت صفّاً فصفّا
![]() غَبَشٌ ناعمُ السنا وشفيفٌ
![]() من سديَم راضَ الدجى أن يَشفّا (1)
![]() وكأن الغُيومَ فوق الجبال الخضرِ،
![]() فوق الأدواح يَرْفَعْنَ سَقفا (2)
![]() وعَجاجٌ من الرَّذاذِ تنِثُّ العطرَ
![]() والدفءَ سمحةٌ منه وطفا (3)
![]() وكأن الأمواجَ يُرْهِفْنَ سَمْعاً
![]() ويطارِحْنها الأناشيدَ عَزْفا
![]() صعِدتْ ما تشاءُ .. ثم ألاحت
![]() بجَناحينِ أَوشكا أن يزِفّا (4)
![]() طَبَقٌ تِلوُ آخرٍ ثم يُجلى
![]() وخروقٌ ما بينها ثم تُرفا
![]() وخَلَتْ باحةُ السما غيرَ رسمٍ
![]() لم يَلُحْ للعُيونِ حتى تعفّى (5)
![]() ثمَّةَ ازَّيَّنَتْ بأبدعِ ما وُشي
![]() حُسْنا، وقد تخير لطفا
![]() حُلُمٌ لم تُوَفِّهِ العينُ رؤيا
![]() كَذَبَ الحرفُ أن يوفيه وَصْفا
![]() خِلْتُ في الجو ساحراً يبعث الخلقَ
![]() جديداً صوغاً، ونشراً، ولفّا
![]() تتعرّى له الطبيعة عُجْباً
![]() وبلمْحٍ من ظِلِّه تتخفى
![]() ثم يُلقي خضرَ الشُّفوف عليها
![]() ثم يرمي بِهِنَّ شفّاً فشفّا
![]() وحنايا جِنٍّ كأن عليها
![]() من حفيف الرؤى غدائرَ وُحفا (6)
![]() بُدِّلَ الكونُ خِلْقةً فالعُتُل
![]() الضخمُ يبدو فيه الأشفّ، الأشفّا (7)
![]() وكأنَّ الحياةَ تُوحشُ نِصفاً
![]() من سماواتِها، وتُؤنسُ نِصفا
![]() وكأنَّ السُّفوح يَنْسَبْنَ ذُعراً
![]() وكأن الجبالَ يَزْحَفْنَ زحفا
![]() وكأنَّ الحُجومَ ضُوعفن أَلْفاً
![]() من مقاييسها، وصُغِّرْنَ ألفا
![]() كُتَلٌ تنبِض الحياة لِماماً
![]() في تضاريسها، ويُحْسَبْنَ غُلْفا (8)
![]() * * *
![]() أشْرق الفجرُ فوقَ " فرنا " فأَضْفَتْ
![]() فوقَهُ سحرَها الخفيَّ وأضفى (9)
![]() واستطاب الرملُ النديُ بِساطاً
![]() فمشى ناعمَ الْخطى يَتَكفّا (10)
![]() مُعْجَباً يَمْسَحُ الدُّجى منه عِطفاً
![]() ويُهزُّ الصبحُ المنورُ عِطْفا (11)
![]() وتوارى عاتٍ من " الزّنج " صفّى
![]() ما لديه من النُّجوم فأصفى (12)
![]() وارتمى البحرُ عاصِفاً يلطِمُ السا
![]() حلَ حتى حَسِبْتهُ يَتَخفّى
![]() ونديمي وجهٌ صَبُوحٌ وكأسٌ
![]() غُودرت في مِزاجها الصرفِ صِرْفا (13)
![]() أحتسيها من لاعجِ الوَجْدِ عَبّاً
![]() وعلى رَفَّةِ الشِّفاه فَرَشْفا (14)
![]() ثمّ دبّتْ بنا تُثَقِّلُ جَفْناً
![]() وتُصَفِّي نَفْساً، وتُرْعِشُ كفّا
![]() يا مَزيجاً من ألف كَونٍ تَرفّق
![]() إنّ كوناً على ذراعيكِ أَغْفى
![]() قُتل الحسنُ ما أشدَّ على
![]() العيْنِ وُضوحاً، وما أدقَّ وأخفى
![]() |
(1) غبش: ظلمة آخر الليل.
(2) الأدواح: جمع دوح وهو الشجر العظيم.
(3) وطفا: مقصور وطفاء، والوطفاء كثيرة الماء.
(4) يزف: يرتمي على الأرض.
(5) تعفّى: زال.
(6) حفايا: جمع حفية أي المبالغ في إكرامها. الوحف: السود.
(7) العتل: الشديد الجاف الغليظ.
(8) الغلف: الصم.
(9) فرنا: فارنا.
(10) يتكفا: يمشي على صدور قدميه. فيتمايل إلى قدام استعارها للفجر.
(11) العطف: الجانب.
(12) عات من ” الزنج ” كناية عن الليل الشديد الظلمة. صفى النجوم، هنا: غيبها. أصفى: انقطع وغاب.
(13) الصرف: الخالص.
(14) لاعج الوجد: حرقة الغرام. العب: الشرب ملء الفم أي الكثير.
الرشف: الشرب قليلا قليلا.
المصدر : ديوان الجواهري-الجزء السادس-الجمهورية العراقية-وزارة الاعلام-دار الحرية للطباعة -بغداد 1977م