الدكتورة خيال الجواهري تحاور محمد مهدي الجواهري
|
30-07-2006 |
د. خيال الجواهري < ماذا عن ابرز الكتب التي شكلت الارضية المهمة لثقافتك منذ عمر الطفولة ثم الصبا؟ وبدون تردد وبكل رحابة صدر أجاب: – كانت البداية كبداية كل طفل يتعلم القراءة والكتابة.. ومن ثم المدخل الى القرآن وأنا مدين له باقتناص اللغة والحرف وحتى الشعر والصور واللقطات من آيات اوحت لي، خصوصاً عند ترتيله، فهو يسحرني عند سماعه، قصدي اني تعلمت منذ ابجد هوز حطي كلمن.. ثم بعض التاريخ وتجربتي المبكرة لا تقارن مع أمثالي حيث بدأت القراءة وأنا في سن الثامنة. وبتوجيه من والدي وأخي عبدالعزيز، كنت اقرأ النماذج العليا في نهج البلاغة. في هذه السن كانت القراءة بصورة قسرية وموجهة، وحتى الان أذكر أني كنت أقرأ قطعة من نهج البلاغة، وقطعة من "آمال ابي علي القالي" هذه الكتب وحتى الان في الثمانينيات احتاج الى قراءتها. شيء مؤثر من سن الثامنة وحتى الثمانين، وهي من بين أربعة من الكتب التي تعتبر من ركائز الادب العربي، وهي: يقال أن كل اديب ومتأدب لابد أن يلم بها. من هنا ابتدأ ولعي بالكتب الادبية واستمر معي سنين عديدة، يعني اربع، خمس سنوات، أي الى الثالثة او الرابعة عشرة، حيث كنت ملزما وكما قلت بتأديب يصح ان يكون الأساس الاول لكياني الادبي.وبالحقيقة بعد ذلك بدأت تتكون شخصيتي الادبية ذاتيا، وبما يشبه الجنون كنت ألتقط الكتب كمثل الجوعان او العطشان الى كل كتاب أدبي او ديوان شعري يقع تحت يدي، وبدون تمييز حتى أن بعض الكتب كان يجب أن استعيرها من اصحابها. وبعض الكتب لولعي الشديد بها كنت أنقلها بخط يدي كاملة حتى أرجعها الى اصحابها، هذا كان بالمجموع ولكن بعد مدة أي بعد الخامسة عشرة بدأت أفرز ميولي، وأميل الى جانب بعض الكتب دون أخرى، وحينها بدا حبي للاتجاهات الادبية، وأصبحت ذا موهبة في ما أختار من دواوين وكتب تستهدف بعض المفاهيم التي أسميها تقدمية، ثائرة، متمردة ومن هنا كان ولعي الشديد بالمتنبي كثائر والى جانبه ولعي بالبحتري كرسام من حيث الصياغة، والى الان لا يفترق الابداع عن التمرد، كنت ثائراً في كل شيء انسجاماً مع الثورة في تصرفي، في نظرتي للمجتمع البائس شبه المتخلف، البدائي وتمردي عليه، وهذا مسجل في الديوان منذ السنين المبكرة وفي السابعة عشرة من عمري نظمت "انزعي يا بلدتي ما رث..". الواقع أعتبر هذه الكتب هي مقوماتي الاساسية والتي الى الان تلازمني، وقصائدي التي ألاحظها الى جانب الثورة في كل شيء، الثورة الحقيقية حتى في الحب ايضا كنت ثائرا، الثورة لا تتجزأ هذه البداية، وفي الثامنة عشرة او التاسعة عشرة توسعت الدائرة، كنت حينها التقط الكتب وما سميت (بكتب عصر النهضة) ما ورد الى النجف، كانت مرحلة شبه حاسمة بين القديم والجديد، ولكن انا خرجت من هذه القوقعة المحدودة، صرت التقط الكتب بفهم، وكان من النادر لمن هم في سني المبكرة أي الثالثة عشرة، او حتى السابعة عشرة، حيث توجد كتب حتى الان اسأل عنها يقولون لم نقرأها ولم نسمع بها. الواقع لا اعرف لماذا اقرأ، كنت أتعجب.. حيث كان من يتقدمون علي في السن بعيدين عن هذه الكتب، وفي سني تلك قرأت شبلي شميل والكتب المترجمة، لكتب اناتول فرانس. هذه مقوماتي، وكنت أسطو على اكبر مكتبات النجف الشهيرة التي كانت لي ولعائلتي واقرأ الكثير قياساً الى من هم في سني، وحتى الان أتذكر اكثر المكتبات شهرة مثلا مكتبة كاشف الغطاء وهو خالنا الذي لا يقبل ان يخرج كتاب من مكتبته، ولكنه كان يحبني ويسمح لي باستعارة خمسة أو ستة كتب وهي من الكتب النادرة والتي لم تطبع بعد مثل كتب ابي العلاء المعري، والجاحظ، ودواوين الشعراء الكبار مثل أبي تمام، والبحتري، وأبي نؤاس، واكثر الكتب النادرة، وكان يشترط عليّ ألا اكتب على الهوامش، كان يقول لي لا اسمح لك بدخول البيت ان كتبت الهوامش، مرة غضب وطرد أخي عبدالعزيز لأنه كتب الهوامش على كتاب ما، وألتزمت بهذه القاعدة، ولهذا كنت المدلل عنده، ووصل الامر الى أنه أعطاني فهرس المكتبة.. هذه المكتبة كانت من اعظم مكتبات العراق حتى الان، وفتحت ابوابها في النجف كمكتبة عامة (مكتبة آل كاشف الغطاء" هذا ما عدا المكتبات التي كانت عند اصدقائي. كان عندي جنون اكثر من ولع، ولاجل ذلك كنت اقرأ وأنسخ الديوان او الكتاب الادبي، في يوليو (تموز) العراق القاسي الذي تصل حرارته الى 50 درجة والتي تسقط الحمام من السماء لشدة حرارته، وأنا لا أنزل الى السرداب (الدهليز البارد) لكي لاأنام وكنت أتحمل الحر المميت لاجل أن أظل ليلا ونهارا وكنا على الفوانيس، أهل البيت كلهم نيام وانا اقرأ. كنت ولعا بالكتب، قراءتها واستيعابها والسيطرة عليها، ليس من أجل القراءة فقط، اقرأ من أجل أن أفهم بدقة، ثم اتفاعل بها، وكثير منها تترك اثرا حتى الان لا انسى الكتب التي انفعلت بها. أما الكتب التي تأثرت بها اعظم ما يمكن فهي التي نقلت الحضارة الاوربية، المرحلة التي سميت العصور الوسطى، أي ما ترجم منها والكتاب الذي منع في الاتحاد السوفيتي وهو "ابن الطبيعة" والذي يعتبر من الكتب النادرة الى الان حيث اسأل الاقران الذين يقرؤون الانجليزية والذين يقرؤون اللغات الاجنبية وأجد أنهم لم يمروا عليه. كذلك كتاب "الاوباش" لاميل زولا والذي اوحى لي بقصيدة "الاوباش" التي هي من أعز قصائدي: جـهلنا ما يراد بنا فقلـنا نوامــيس يدبرها الخفاء اثار هذا الكتاب "الاوباش" ضجة لانه من الكتب النادرة، موضوعه عن المجتمع وعن الطبقات، كذلك كتاب اناتول فرانس "الزنبقة الحمراء". ومن الكتب التي قرأتها كتب همنغواي العظيم، كتاب "بابا همنغواي" الذي كتبه سكرتيره، قرأته ثلاث مرات ولا يزال الكتاب موجوداً عندي الى الان ببراغ، ومن هذا القبيل. بعد ذلك بدأنا نتصل بالحركة التقدمية والموجة القادمة من ثورة اكتوبر. هذا في بغداد في عز الشباب، اما في سن 26 او 27 فقد أبتدأ محيطي التقدمي المحدود والمعدود يتكون وانا في الوسط منهم. وكان معنا المرحوم محمد احمد المدرس، وحسين الرحال، وعبدالقادر اسماعيل، وعاصم فليح. نحن الطليعة الاولى وكذلك الحق يقال الاخ حسين جميل، هذه المرحلة التي استمرت طبيعية ليس فيها طفرات. المجتمع والانسان والفكرة عن النظم، والفكرة عن الحضارة كحضارة عريقة متصلة وليس منفصلة وطائرة. وهذا كله قد كملته تجارب الحياة البيتية الاجتماعية والسياسية، الضيق والواسع منها، الضيق البيت والاوسع هو العالم، وتلك العوالم كلها أثرت بي الى جانب الكتب، الى جانب العباقرة الذين استفدت منهم بالواقع، هذا بالاضافة الى ما في دمي وكياني أي الفطرة التي فطرت عليها والحلقة التي خلقت لاجلها أي العنصر الذاتي، هذا يعني ياتي في المقدمة، كثير من الناس خلقوا ليكونوا هكذا وكل الكائنات لا يمكن ان تبدل خلقتها. < هل حدث ان ترجمت في يوم ما؟ نعم حصل ذلك وكانت ترجمتي الاولى عن الفارسية التي قرأت فيها دواوين العظماء "سعدي والخيام" و"المثنوي" لقد وجدت هذا الكتاب لدى صديق واستعرته منه وفي اليوم التالي حينما جاء ليسترد كتابه وجدني قد نقلته الى العربية من الفارسية، وبترجمة كاملة ورغم ضعف امكاناتي المادية 15 او 20 ليرة ذهب انفقت عليه، فقد طبع هذا الكتاب في صيدا كنت يومها في الثامنة عشرة من عمري كان عنوان الكتاب "جناية الروس والانكليز في ايران" والكتاب اصلا مترجم عن الفارسية وموضوعه كيف كانوا يتنازعون حتى على شراء المعممين والمتدينين وكيف كانت أرصدتهم في البنوك، تكلم عنها علامة في الاقتصاد وفي السياسة (علامة بلجيكي) يقال أن محاضرته نقلت الى الصحف، ذكر في الكتاب كيف كانوا يشترون الذمم والصحف والشاهات. وكما قلت اغرب ما فيه عندما يصل الى العمائم.. شيء لا يصدق. كذلك ترجمت عدداً من المقطوعات الشعرية للشاعر المتمرد "حافظ شيرازي" وقد نشرت في جريدة "النجف" عام 1927 والى جانب جريدة "الفضيلة" عام 1926. أذكر منها على سبيل المثال. 1-هذا وذاك ينوح البلبل المسكين ما بين البسـاتين 2-أمران عجيبان طبعك القاسي وحظي منك امران عجاب 3-ذاك الذي ذاك الذي امـلـنا بوعـظه و أنبا < متى طبعت ديوانك الاول؟ – طبعت ديواني الاول سنة 1927 وهو بين الادب والعاطفة والثاني سنة 1935، ثم توالت الطبعات العديدة في أكثر من مكان، طبعات في النجف، وبغداد وفي دمشق وفي لبنان، واصبح في بغداد اربع طبعات آخرها كبير ذو سبعة مجلدات. < ماذا عن أثر الغربة في شعرك؟ – كانت قصائدي المثيرة للناس من براغ حيث تنتقل بسرعة البرق الى الناس في السجون والغربة وتأثيرها عليّ وعلى ما كان من مرحلة دموية، مرحلة فاشية، كان تجاوب بيني وبين الداخل.. والسبب هو الغربة.. وبدلا من ان تكون المشاعر تعبيرا عن الغربة اصبحت عن الوطن او عن الغرباء في اوطانهم وعن المعاناة، معاناة الاقتراب والاغتراب. الاقتراب كنوع من العذاب، والتفاعل مع المعذبين في كل مكان. < ماذا عن المعاناة في المرحلة الراهنة؟ – أنا الوحيد الذي عانى وتفاعل مع هذه المرحلة، انا الوحيد الذي تصل كلمته الى الداخل هناك، مواقف في الخارج عديدة ومشكورة ولكن بلا غرور ولا ادعاء. الحقيقة ان التاريخ يسجل انا الوحيد، وكما تعرفين (ولو الظروف تقتضيني) الصورة وكمثال عن ايام براغ قلت مثلا: قصيدة يا عبد حرب.. فأنتقلت مباشرة الى السجون، وقصيدة يا غريب الدار (قصيدة نظمت عام 1962م): من لهم لايجـــارى هذه القصيدة التي تتجاوب مع مشاعر الناس في بغداد وخارجها. اوصلتها في قصيدة "أبا مهند" المهداة الى الدكتور صابر فلحوط نقيب الصحفيين في سورية. أبا مهند شر من حكـموا ما كان لولا ذل من حـكموا أرسلت جواباً على قصيدة ارسلها صابر فلحوط الى الجواهري في براغ بتاريخ 5-7-1983 . < عودة الى قراءاتك، ماذا تذكر منها الان؟ – كان هناك كتاب نسيت عنوانه للمؤلف شبلي شميل، وكتاب آخر لاسماعيل مظهر، هذه الكتب كانت تقريبا اكثر من متمردة كانت متحررة، وخارجة على كل المعتقدات والمجتمعات والتقاليد الدارجة. كانت تمسها مباشرة. واغرب الغرائب يوجد كتاب من هذا النوع في النجف. في الخمسينيات كنت في المعتقل ولاول مرة اغيب عن بيتي، وللمرة الاخيرة. كنت أنت وأختك ظلال وامك، لم يأتوا من أجل كتب باللغة الاجنبية (كنت قد سألته ذلك)، وانما كانوا قد جاؤوا من اجل لفائف من التواقيع التي جمعت من أجل حركة السلام وكنت قد نشرت العنوان في الصحف والمفارقة لم يذكر بيتي عن ذلك.. وهو: الى الجماهير العراقية.. يرسل الى العنوان التالي. الاعظمية- دار الجواهري. < وماذا عن الكتب الاخرى؟ – كان العراق من البلدان المتخلفة والبعيدة عن الكتب الماركسية.. هذه وحدة وبصورة عامة، اما بخصوص الكتب كانت تصل بالحد الادنى، وغالبا القصص وبصراحة كانت صعبة وذات عمق واختصاص، ولكن قرأت الكتب العديدة للادباء العباقرة لتولستوي، كل كتبه قد قرأتها، غوغول، كتب تورجينيف، كتب العبقري بوشكين، قصص مثل آنا كارنينا، بطل من زماننا، اربع مرات قرأته، قرأت في الفرنسية الدون الهادئ للعبقري شولوخوف. جميعها قرأتها واثرت في نفسي ومذكرات مكسيم غوركي قد نشرت في جريدة "الرأي العام". كذلك الجريمة والعقاب قرأتها مرتين واثرت في نفسي كثيرا. هناك كتاب اسمه ابن الطبيعة للمؤلف (هايس باشي) وهذا الكتاب من النوادر اشتريت ثلاث نسخ منه في حينها، أعطيت واحدة منها للشاعر الرصافي وكان موضوعه حول الطبيعة. < ما هي المكتبات التي زرتها؟ – زرت مكتبة لينين في الاتحاد السوفيتي. كذلك مكتبات في براغ (أكاديمية العلوم ومكتبة كلية الفلسفة، ومكتبة معهد المستشرقين) مكتبات بغداد الرسمية والاهلية فيها كتب نادرة فارزة، للاسف نهبت فلم يبق الكثر في مكتبة بغداد الشهيرة. كذلك استفدت من المكتبة الظاهرية في دمشق. كذلك استعرت من المركز الثقافي في ابي رمانة- دمشق التابع لوزارة الثقافة. كان الكتاب جليسي ونديمي.. وأنا الان اتناول حبوب النوم، كنت اقول لهم في الماضي لا أحتاج لحبوب النوم الكتاب الذي أقرأه هو البديل.. كنت اقرأ فيه الى أن يقع من تحت يدي وصفحاته مفتوحة وقد أخذني نوم عميق. في الحقيقة كلما قضيت ساعات يصعب فيها علي النوم، أتناول كتاباً واقرأه، فيدفع عني القلق والارق. |
المصدر : الجمعية العراقية الكويتية http://www.aljeeran.net