رحلتي مع الجواهري من الاعجاب الى العجب : جابر الجابري .

التاريخ اذا تكلم : رحلتي مع الجواهري من الاعجاب الى العجب 
   جابر الجابري (مدين الموسوي)

اثارت هذه المذكرات موجة من الاعتراضات والتفاعلات في الساحة العربية والعالمية لما تحمله من بوح مفرط
في تفاصيل ويوميات شاعر العرب الاكبر المرحوم محمد مهدي الجواهري حينما نشرها الشاعر جابر الجابري (مدين الموسوي) في صحيفة السفير اللبنانية على شكل حلقات ثم نشرتها مجلة القصب في عدد 11 عام 1997  كلا النشرين خارج العراق ولم يطلع عليه العراقيون وقد اثار نشرها انذاك حفيظة الكثير من المتلقين من فضائيات وصحف ومجلات وقد طال وقوف الشاعر مدين الموسوي امام الاعلام مدافعا عن مذكراته
هذه مبررا ذلك بتقديم مادة سايكولوجية عن شخصية العملاق توفر الكثير من العناء والجهد على الباحثين .
لكن رغم ضخامة هذه الضجة الا انها ظلت بعيدة ومحجوبة عن المتلقي العراقي في الداخل الذي له الاولوية
في التعرف على رجالاته ورموزه بعد ان حجبتها غيوم الدكتاتور، يقينا ان التاريخ ليس ملكا لاحد، وليس لاحد ان يغير الوان اللوحة حسب شهية قلمه، لهذا ارتأت مجلة (الشبكة العراقية) ان تضع بين يدي العراقيين هذه المذكرات على شكل حلقات فاتحة باب الحوار العراقي- العراقي حول هذه المادة المهمة التي ستسهم في عملية الحراك الثقافي. 

في التاسعة من مساء 6/ 5/ 1993 كان على الطرف الاخر من خط الهاتف مكتب السيد الخامنئي بطهران،
يطلب الي الحضور للمرة الاولى منذ استلامه موقع الزعامة.
ذهبت في الوقت الذي اتفقنا عليه صبيحة اليوم التالي، لابلغ باختياري مستقبلا للجواهري الكبير، بعد
استجابته لدعوة خاصة من السيد الخامنئي.
بعد ساعات خمس، كانت السيارة تقلني من قاعة الشرف في مطار مهر اباد الى مدرج الطائرة القادمة من
دمشق.
لم تفتح بعد بوابة الطائرة حين وقفت اسفل السلم بانتظار الجواهري الذي سينزل قبل الجميع، كان هواء
طهران الليلي معبأ برذاذ المطر، بعد ان استحمت المدينة برشفة منه،  صاحبتها لسعة من البرد، فيما كانت الجبال المحيطة بالمدينة مكسوة بطبقة من الثلج تشير الى بقايا الشتاء على جبال طهران وبعض ضواحيها
الشمالية. انتابني في تلك اللحظات موجة من شعور غامض بالفرح.
خرج الجواهري من بوابة الطائرة الى باحة السلم، وحين لسعه البرد تراجع قليلا ولفّ رأسه بشال اسود، ثم
اداره حول رقبته، لينزل ببطء على درجات السلم. عانقته بحرارة عندما وطأت اقدامه الارض، ورحبت
بقدومه، ثم همست باذنه: ان شاء الله هذا الشال ليس مقدمة للعمامة.
لم يقل الجواهري شيئا، وكانه مختنق بكلمات اخرى تحاول الافلات من حنجرته، امسك بيدي، وقال بصوت
متهدج: لما ماتت يالله جابوني؟
وفهمت ما يقصده، قلت له: البقية بحياتك ابا فرات.
كان الجواهري قد طلب الى السفارة الايرانية بدمشق- تلبية لرغبة زوجته تأشيرة دخول الى ايران بواسطة
المستشار الثقافي انذاك، ولاعتبارات مجهولة اهمل المستشار الطلب، وسافر الى ايران تاركا الجواز في طاولته المقفلة لحين عودته، مما اثار في الجواهري عاصفة من التذمر الممزوج باللعنة، حتى استعاد الجواز ليذهب به الى الامارات العربية لاستلام جائزة السلطان العويس البالغة مائة الف دولارا، ثم الى لندن، حيث تختطف يد المنية زوجته امونة، ويعود الجواهري وحيدا الى دمشق، مفارقا اعز رفيق له في حياته، فتعصف به الغربة القاتلة والشعور بالوحدة، ليلقى به في المستشفى، ويكون وفد المستشارية الايرانية ضمن الوفود والشخصيات العائدة له على سرير المرض، يرافق الوفد احد المساعدين للسيد الخامنئي، وما ان تصطدم عين الجواهري بوجه المستشار حتى ينفجر بالغضب، ويراقب المساعد مدى الانفجار وقوته عند الجواهري، لينقل الصورة
بكل تفاصيلها الى السيد الخامنئي، بعد ان يستجلي ملابسات الامر، فيصدر الخامنئي على الفور امرين:
الاول: اقامة مجلس عزاءعلى روح “امونة” من قبله شخصيا وفي حرم الامام الرضا عليه السلام الذي رغبت
بزيارته الفقيدة..
والثاني: دعوة شخصية ايضا ومفتوحة للجواهري بالقدوم الى ايران.
وصلت اخبار مجلس الفاتحة والدعوة في ان واحد الى الجواهري في دمشق، وهو يعيش ذروة وحدته وضجره
من الفراغ الرهيب الذي خلفته امونة برحيلها، وعلى يد رجل يعرف كيف يداعب اوتار الجواهري من
اعضاء المكتب، لذلك جاءت الاستجابة سريعة من الشاعر الكبير.
بخطى وئيدة قطع الجواهري المسافة الفاصلة بين سلم الطائرة والسيارة التي ستقلنا الى صالة الشرف، لم ينبس
خلالها بحرف واحد، واظنني استطعت قراءة الوجوم الذي غلف ملامحه المتعبة، فقد عادت روحه الى دمشق
لتصطحب معها رفيقة حياته في رحلته الموعودة الى ايران، ليحقق رغبتها الاخيرة قبل الرحيل.
توقفت السيارة امام صالة الشرف ونزل الجواهري بين مجموعة من الادباء والشعراء اصطفت للترحيب
بضيفها الكبير، يتقدمها المندوب الشخصي للسيد الخامنئي.
في باحة الصالة، رحب المندوب بلباقة وادب متميزين، وباسم القائد شخصيا بالجواهري، مطعما ترحيبه
بابيات للجواهري نفسه، يشكو فيها غربته وضياعه المزمن:
يا غريب الدار لم تكفل 
                 له الاوطـان دارا
تخـذ الـغـربة دارا     
                 إذ رأى الذل اسارا 
إذ راى العيش مـدارا    
                ذيـنم لايـــدارا

ثم اعقبها:
ارح ركابك من اين ومن عـثر
                       كفاك جيلان محمولا على خطر
كفاك موحش درب رحت تقطعه
                      كأن مغّبرهُ لـيـل بلا ســحر
ويا اخا الطير في ورد وفي صدر 
                     في كل يوم له عش على شـجر
انفجرت اسارير الجواهري، وافترت شفتاه عن ابتسامة ممزوجة بحسرة خانقة، وهو يردد مع المندوب ما قرأه
من ابيات، ثم يكمل ما يفوته منها.
تحلق المستقبلون حول الجواهري، وانصتوا لما سيقوله ويتفوه به، كان كل واحد منهم قد رسم له صورة من
خلال شعره، ويريد الان ان يطابق الملامح على الملامح، والصورة على الصورة.
فها هو الجواهري بالصورة والصوت، يرد على المتحدث، ويجيب السائل ويتفاعل معه، ليس على شاشة
تلفزيون، ولا في صحيفة او مجلة، كان البعض منهم يعيش الحلم، فيما الاخر يفرك عينيه ليطمئن الى الحقيقة.
وقف احد الشعراء والقى قصيدة ترحيبية بين يديه، كانت القصيدة اكبارا وتجليلا ممزوجا بالعتب المر لسكوته
على مأساة شعبه، فلم تهزه جراحهم ولا صرخاتهم، اشاح بوجهه عن العراق وهو يتخبط بدمه.
لماذا يا ابا فرات؟ هل تخشى على فرات؟ نحن زففنا من كل بيت فراتا. سكت الجواهري ولم يعقب، ثم تدارك
الموقف بعد ان تذكر انه في طهران.
قال: اي والله، مصيبة العراق اكبر من قصيدة، واكبر من الشعر، انه ما اقدر اصورها بقصيدة. لكن
الجواهري كان يقول في داخله غير هذا تماما، كان يتمتم بلعن الشاعر، والساعة التي ولد فيها. لم تستغرق
المدة على سماعه القصيدة بضع دقائق، حتى مال علي ليهمس في اذني:
منو هذا الغثيث؟
قلت له: هذا دكتور..
قال: ط…. ، هوه اكو كـ….  ما صارت دكتوره!
سادت لحظات من الصمت، اوجدتها القصيدة دون تعليق من احد، لننصرف بعدها جميعا الى السيارات خارج
الصالة، متجهين الى فندق الاستقلال بشمال طهران.
جلس الجواهري في المقعد الامامي، وجلست بجانب المندوب الشخصي للسيد الخامنئي في المقعد الخلفي، فيما
راحت السيارة تشق طريقها في شوارع طهران الشمالية، التي تحفها اشجار الصنوبر والاس، وتجري من تحتها
سواق رقراقة.
كان الجواهري يستعيد ايام زيارته الاولى والثانية الى هذه المدينة التي بدات بالاسترخاء لتغط في سباتها الليلي
العميق.
سأل المندوب الخاص الجواهري: استاذ، سمعنا ان لديك قصيدة في الامام الخميني، او انك ستنظم فيه قرآنا
من الشعر، لولا اسراك في العراق؟
قال الجواهري: نعم، هذا صحيح، والان عندي بيت شعر واحد يعادل قصيدة بكاملها، اريد ينكتب على
قبر الامام الخميني، وبطريقة انا اعلّم الخطاط بيها.
ثم رفع يده ليشير باصبعه، كانه يرسم لوحة يحرص على ابعادها وتقاطع مستوياتها:
امام.. “فوق”.
وكيف يكون الامام… “تحت”.
اذا لم تكنه.. “تحت”.
عليك السلام… “بجانبها”.
وهذه لوحة فنية وليست قصيدة، اريدكم تخطوها على القبر.
المندوب: شكرا استاذنا الجواهري.. رائع.
كنت استمع الى بيت الشعر، واتابع حركة يده، ثم اتساءل بصمت، هل صحيح ما يعنيه الجواهري؟ وهل هو
مقتنع به، وكيف سيقنع الاخرين ان هذا البيت هو قصيدة بكاملها؟
تجاوزت الساعة الثانية عشرة ليلا، حين دخلنا الجناح الخاص في فندق الاستقلال، في الطابق الخامس عشر،
كانت طهران ذلك الوقت في حالة استرخائها الليلي، اطل الجواهري على جانبها الغربي، فاسرته باضوائها المتلألئة، لتنتزع منه كلمة “ يا روحي” ثلاث مرات، وتخطفه للحظات يعود بعدها الى صالون الاستقبال، ويسالني عن برنامج السفر، فاجيبه: الان نوم فقط، وعند الصباح يحمد القوم السرى، فيجيبني: اي والله عيني
ماكو احلى من النوم.
                                                 ***
كان الصباح مشرقا تماما، حين افتتح الجواهري يومه الاول في طهران، ومنذ الساعات الاولى تفحص المدينة،
ليمسح عن عيونها اثار النوم، ثم يطقطق بمسبحته الكهرب، ويدندن بشيء من ابيات الشعر. استيقظ الجواهري بكامل ملابسه التي نام بها، وهي التي ارتداها في دمشق حتى الطاقية نامت معه على السرير
دون ان تفارق راسه، او تفرق بينهما وسادة الريش التي اختارها دون غيرها من الوسائد.
اتصل المندوب الخاص مطمئنا على صحة الجواهري، ومحددا في الوقت نفسه موعد اللقاء مع القائد، بعدها
بساعات زارنا شخصيا، ومعه ديوان الجواهري ومجموعة من الاوراق دوّن عليها السيد الخامنئي ملاحظاته وهوامشه عند قراءته للديوان، واخذ يقرأ على الجواهري ما كتبه الخامنئي من ملاحظات بحق الشعر
وصاحبه، والجواهري يكاد يطير فرحا بما يسمع.
فالخامنئي برّأ ساحة الجواهري مما علق بها من تهم وجّهتها له الحوزة والوسط الملتزم، وبرر عشقه وذوبانه في
الجمال بانه مقدمة لذوبانه بالجمال المطلق، كما فسر كفره بالايمان لانه كفر بالكفر.
فوجئ الجواهري بهذه الملاحظات والتعليل النادر لنصوصه واخذ يردد: يا روحي، يا روحي، مع كل فقرة
من الهوامش التي يسمعها.
ويقول ايضا: هذا القائد، مو الزعماء العرب اللي ثلاثة ارباعهم ما يعرفون يقرأون بيتا واحدا من الشعر. 
كانت هذه القراءة مقدمة ذكية من المندوب الخاص لاطلاع الجواهري على قيمته عند السيد الخامنئي، واشارة الى مدى اهتمامه بشعره وشخصيته، بعدها ارتأى الجواهري ان يكتب قصيدة للخامنئي يعبر فيها عن
اعجابه وتقديره لهذا القائد.
سألني عن اجمل مكان في طهران، تنفتح فيه مغاليق الشعر، ويكون محلا لولادة القصيدة. جُلْتُ بذاكرتي على
مناطقها لاختار “دربند”، وهو منتجع شمالي طهران، تلتقي فيه الوجوه النضرة لتقضي فيه اجمل سهراتها،
وكان الجواهري قد كتب فيه احلى قصائده.
قلت له: ابا فرات، افضل شيء دربند، الطبيعة والبشر، كلاهما يوحيان بالشعر، وانت رايح بايام شبابك
وتقول بها:
رعى الله ام الحســن دربند اننا
                       وجدنا بها روضا من الصفو ممرعا
قال: اي والله صحيح، ولكن بكيناها جمالا مضيعا.
ثم استدرك قائلا: لكن لو ناخذ جولة بطهران اولا مو احسن.
كانت شوارع طهران بداية جولتنا، ذهبنا الى وسط العاصمة، ثم شرقها وشمالها، كانت جولة صاخبة ضعنا
فيها بين ارتال السيارات والاشارات الحمراء والدخان الذي يلف المدينة ليجعلها الرابعة في التلوث بين مدن
العالم.
كان الجواهري يحدق في الارصفة والمحلات ومقاعد الحدائق العامة، كمن يبحث عن شيء فقده بين الزحام.
سألته: ابو فرات، مضيع شي؟
اجاب على الفور: هذني البنات ليش مكفنيهن بالسواد، مو حرام، هذا الجمال ما يشوفه احد. لم يلفت نظره
شيء في عوالم طهران المتعددة، سوى الحجاب الذي ترتديه فتياتها، والذي جعل منهن قطيعا اسودا يتجول في
الشوارع، وكأن هذا السواد احد المغاليق المحكمة للشعر.
سالني: هذه الدنيا كلها هالشكل هنا؟
اجبته: هذا ظاهره فيه الرحمة وباطنه فيه العذاب.
عند الغروب توجهنا الى دربند، كان كل شيء فيها يبعث على الفرح، اضواؤها الملونة، نسماتها المنسرحة من
القمم الشاهقة لتلامس المجرى المائي بين صخور الواد ي العميق، فضلا عن الحسان من الفتيات اللواتي حزمن
امتعتهن ليتسلقن قمم الجبال.
دلفنا الى المقهى المطل على الواد العميق، فارتفعت القمم فوق رؤوسنا كالحراب، وجرى من تحت ارجلنا ماء
رقراق، وتناثرت مجموعة من الاطفال حول الطاولات القريبة، اشتعلت السيجارة بيد الجواهري للمرة الخامسة، خلال دقائق معدودة، لكن القصيدة لم تقدح داخله، كان وجهه يمسح المكان بعينين قلقتين. تركته
لينفرد بنفسه، واعتزلت متشاغلا عنه بعض الوقت، ثم رجعت اليه.
قال لي: هنا ما تطلع القصيدة، كوم نشوف مكان اخر.
خرجنا من المقهى وعدنا ادراجنا الى ميدان تجريش، وقد راقبت ملامح الجواهري المنقبضة كانها قطعة من
الحجر، فيما تدحرجت كلماته العكرة بمضض واضح، ويبدو ان عسر المخاض بدأ يضغط على اعصابه.
سألته: هل نعود الى الفندق؟
اجابني: لا، كرهت الفندق، شوف لي مكان اخر.
طلبنا من السائق الاتجاه الى “فرحزاد” فيما راحت درجة الحرارة تنخفض ببطء، وعقارب الساعة تميل الى
العاشرة ليلا.
كانت فرحزاد شبه مقفرة، مع جمال طبيعتها وهدوئها، لم يرتدها احد الا ما ندر من الناس، فازداد الجواهري
توترا، وتجهم وجهه حتى كاد يسب من حوله، بما فيهم النادل الذي راح يسالنا عن رغبتنا في الطعام
والشراب، نهره الجواهري وطلب منه الابتعاد عن وجهه.
شعرت ان درجة الاضطراب تصاعدت في نفسه، وانه تكلف بمهمة شاقة، وجد نفسه مكرها عليها،
فالقصيدة عند الجواهري، اما ان تاتي، واما ان لا تاتي.
سالته: متى تاتي القصيدة ابو فرات؟
اجابني: مو بيدي، مرة تجي مثل الماي، ومرة تشق بطني وما تجي.
سألته: وهذه المرة؟
قال: خليها واسكت!..
فسكت، وتناول مجموعة من السجائر، ولم تشتعل القصيدة.
 


المصدر : مجلة الشبكة العراقية http://www.aliraqiyamag.com