الخطاب التهكمي في شعر الجواهري : د.قيس كاظم الجنابي- العراق
ـ 1 ـ
محمد مهدي الجواهري شاعر متمرد من طراز خاص، لشعره خصائص متفردة قد لا تتوفر لغيره، لأنه آخر قمم الشعر العمودي في الأدب العربي المعاصر، ولحياته الشخصية أثر واضح في تجربته الشعرية كالمزاج المتقلّب وروح التمرد والمغامرة، فضلاً عن أثر المتغيرات السياسية والاجتماعية الواضح على شعره نفسياً /لغوياً/ فكرياً. لقد كان الجواهري صورة حيّة لتقلبات الأحداث وصراعات القوى وتعدد المذاهب والأفكار سياسياً/ اجتماعياً؛ فكأَنَّ جُموح العاطفة وشدة وطأة الظروف تنتج شعراً متفرداً يوغل في عمق الفكر وسموّ النسج وتطور الديباجة وتوهج العاطفة.
لقد عاش العراق عهوداً من النُظمِ السياسية ما يغني عن السرد، كان الشاعر معاصراً لها وشاهد عصره فيها؛ فانطلق من خلال الأحداث وانغمر في بعضها حدَّ الإفراط، ولم يكن مزاجه الشِّعري والوجداني مزاج النخبة المُنعزلة في برجها العاجي التي تنتظر أن يتصاعد اللهب من تحت القدمين حتى قمة الرأس.
كان الجواهري يتفجر في كل لحظة شعراً وموقفاً، كما كانت مغامراته العاطفية جزءاً من هذا المزاج، وجزءاً من سايكلوجية تكشف عن تفرد خاص في العبقرية، بكل تطلعاتها صعوداً، وتلبساً ذاتياً بسبب التكوين الاجتماعي والضوابط التي تتحكم بالمجتمع العراقي والعربي معاً.
فكان الجواهري صوتاً لذاته ووطنه وأمته، سما وتدفق ليصبح صوتاً للشعر العربي في القرن العشرين بلا منازع، على رغم صعود موجات وهبوط أخريات كانبثاق حركة الشعر الحر، وقصيدة النثر، والنص المفتوح. لقد كان الجميع يرونه قمة في الشعر من حيث الصياغة والسبك وقوة الأنموذج. فإذا كان ثمة قمم كالمتنبي والبحتري والمعري وأبي تمام وغيرهم فإن الجواهري يعد واحداً منهم على رغم كثرة حاسديه.
كان الجواهري ـ في شعره ـ جاداً كل الجد، ومعبراً عن مواقفه وخلجاته وهواجسه خير تعبير لأنه كان ملتزماً بقضاياه، وملتزماً مع ذاته وتوجساتها بما يغويه إليه شيطان شعره فينغمس في متعة التعبير عن لواعج الوجدان حتى الارتواء، نشوان من السُّكر لذاذةً دون خمرٍ ولا أمرٍ؛ فكان كل هذا وذاك، فهو ظاهرة لا تنكسر لها قناة، ولم تروضها المصالح والمجاملات أو تلوي عنقها المكابدات، وشاعر بهذا الطراز يظل شعره تجسيداً لملامح شخصيته.
على الجانب الآخر عُدَّ الجواهري شاعراً "هجاءً من الطراز الأول"(1). أي أن الهجاء لديه غرض واضح كما هي الأغراض الأخرى، ولم يكن هذا ما يختمر في دخيلته بوصف الهجاء تعبيراً عن وعي فائق يكشف عن الفرق "بين واقع الأشياء وبين ما يجب أن تكون عليه"(2). وهو ما يجعل طبيعة الهجاء بعيدة عن الأساليب التقليدية كالميل نحو البذاءة، وإنما كان الجواهري شاعر الموقف يستخدم الهجاء جزءاً من سيرورة الفعل الشعري بوصفه نصاً وجدانياً يتشكل في داخل القصيدة ليعبر عن تبرمه وتندره واحتجاجه ضد واقع زائف مشحون بالصراعات بحيث يمكن أن يَجعل هذا الاحتجاج المتلبس في الوجدان نزعة تهكمية طافحة تكشف عن حجم الإحساس المفرط بحقيقة الموقف السائد وما يختزنه من تناقضات غير واضحة للعيان للتعبير عن غاية الهجاء المتجذرة التي تكشف عن العواطف المتصارعة وهي "تتراوح بين الضحك والهزء والاحتقار والغضب والكره والمشاعر المستثارة" وهي "تعتمد على جدية العيوب موضع الهجوم كما تعتمد على الموقف الذي يتخذه [الشاعر] نفسه، والنظرة التي يحملها عن الفرق بين المثالي والواقعي"(3). فكان الجواهري يعبر عن ملكاته الهجائية للطاغية وقدراته على (صُنع) الفضائح(4).
ملاحظة :
لتكملة بقية الدراسة أتبع أرقام الصفحات أسفل هذه الصفحة .
(1) من وعي الغربة حتى وعي الغربة : فوزي كريم، دار الحرية للطباعة، (بغداد، 1392 هـ/ 1972م): ص60.
(2) الهجاء: آرثر بولارد، ترجمة : عبد الواحد لؤلؤة، دار الحرية للطباعة (بغداد، 1979م): ص13.
(3) نفسه: ص100.
(4) من وعي الغربة : ص110.
المصدر : مجلة الموقف الأدبي – مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق – العدد 399 تموز 2004