الخطاب التهكمي في شعر الجواهري .

ـ 4 ـ
الانقلاب الذي حصل في قصيدة (هاشم الوتري) هو تعبير عن رغبة ملحة في المشاكسة لتوكيد جانب الحقيقة الراسخ في الأعماق؛ فتحوّل من التكريم إلى التقريع والتهكم المرّ المتفجر الذي يجسد روح الشاعر المتمردة والقادرة على كشف الواقع المستكين فقد اختار الجواهري الوتري مثالاً استطاع من خلاله أن يشحن طاقاته الشعرية بخطاب متهكم يسري في الأعماق البعيدة بقوة المتحدث الجاد المتبرم الصامت ليتفجر الصراخ الساخر القابع في الأعماق، إذ تحولت اللعبة إلى نوع من التشفي المتوقد الذي جعل الجواهري يتسلى بفريسته تسلي الليث الآمن الذي لا يهاب خطراً، تتقلب أفكاره بين الجد والهزل تقلّب الواجد الآسر حيث التوزع بين موقفين: أحدهما حقيقي. والآخر كاذب ومزيف، فعمد الشاعر إلى فضح قوى الزيف وكشفها بكل قوة عبر لغة متدفقة ذات ديباجة متماسكة وتركيب رصين متصل بالتراث، قديمه وحديثه، بما حقق متانة الاتصال ووحدة الموضوع والقصيدة، حتى يتمكن من هدم أوكار الرذيلة ويؤسس وجوده بكل كبرياء وقوة في قلب الركام الهائل من المواقف الكاذبة التي تعبر عن ارتماء مهين بأحضان الأجنبي إلى موقف منحاز للفقراء والشاعر معاً، وهذا ما يجعل المفارقة بين الموقفين متجذرة بوصف المفارقة نوعاً من النقيضة(17). لأن أية نقيضة تحتوي على موقفين متصارعين، يقوم الاستفهام بتصعيد حركة الخطاب التهكمي ليكون كالشحنة الدافعة التي تلهب الأجواء بوميض متدفق يتفجر منه حمم جواهري ممض(18):
إيهٍ "عـميد الـدار"  كُلُّ  لئيمةٍ
                 لابدَّ  ـ واجِدةٌ لئيماً  صـاحِباً
ولكلِّ "فاحشـة" ِإلتماعِ  دميمةٍ
                 سُـوقٌ تتيح  لها دميماً راغبا
ولقد رأى المستعمرون  فرائِساً
                 مِنَّا، و أَلفوا كَلبَ صـيد سائبا!
فتعهدوه ، فراح طـوع بنانهمْ
                 يَبْرُونَ أنـياباً لَهُ و مخـالِـبا
أعرَفت مملكةً  يباحُ  "شهيدها"
                 للخـائبين الخـادمين أجـانبا
مُسـتأجَرون يُخرِّبون ديارهم
                 ويُكافئون على الخرابِ رواتِبا

يصعَّد الشاعر أوار النقيضة ليكشف عن خيبة متوغلة في ركام الحاكمين والخائبين الذين يخربون ديارهم، فيجلو الصدأ عن الأسرار بطريقة تراتبية متسلسلة تعبر عن تنظيم متقن للأفكار، مما يجعل القصيدة وحدة فنية متماسكة تعري البواطن بأسلوب مفعم بالتشفي المشحون بسخط جامح، وتهكم متجدد يتقلب بين الجد والهزل ليثير إحساساً بالبهجة والانتشاء في نفس الشاعر بما يعري عيوب الخصم بطريقة تصاعدية يقوم التهكم فيها بإماطة اللثام عن واقع خاوٍ مترهل وقميء، مما يمنح المتلقي شحنات متوالية من السخرية بطريقة العارف المتجاهل، والمتجاهل الذي يقودك تدريجياً حتى لحظة التفجر حيث الضربة القاضية المدمّرة التي تُجهز على الخصم، مع استمرار مستمر لقوى عديدة تستعير من التراث العربي صورها وتضيف إليها ما استجد لتغدو نسيجاً متصلاً بالماضي ومتجدداً مع الحاضر بقوة حتى الضربة الأخيرة التي مهدّ لها بقوله(19):
الآن أُنبيك اليـقين  كـمـا  جـَلا
                   وضح "الصَّباحُ" عن العيونِ غياهبا
فلقد ســكتُ مخـاطباً إذ لم  أجِدْ
                   من يسـتحقُ صدى الشُّكاة مخاطباً
أُنبيك عن شـرِّ الطُّـغام مـفاجِراً 
                   ومفاخراً، ومسـاعياً ومكاســِبا
الشــاربين دم  الشَّــبابِ  لأنَّهُ
                   لو نالَ من دمهم  لكانَ الشَّــاربا
والحـاقدين على البــلادِ لأنّـها
                   حقَرتهم حقرَ الشــباب  السَّـالبا
شَلَّت يدُ المـستعمرين و فرضُـها
                   هذي العُلوقَ على الدِّمَـاءِ ضرائبا

تسير القصيدة بحركة تراتبية سببية، عبر حركة السبب والمسبب، حين يكشف الشاعر عن الأسباب الواحد تلو الآخر ليزيد من قدرته في إقناع الآخرين ويشد انتباههم مثلما يشد أواصر القصيدة بقدرة لغوية قادرة على ربط المقدمات بالنتائج، تمشياً مع جوهر التفكير المنطقي السليم الذي يجعل الاتصال بين الجمل اتصالاً جمالياً وموضوعياً، وهو اتصال يعبر عن الدرية والجهد والموهبة في آن واحد، بما يكشف عن حركة الأشياء وعدم الانغمار المباشرة بالمفردات والصور والأفكار، فجاءت القصيدة نسيج وحدها، من حيث كشفها لمتغيرات الظروف، والرضى بالعيش المتقشف للحفاظ على وحدة الموقف وسلامته مع العلم أن الشاعر استخدم قدراته الأسلوبية بكل مدياتها من العرض الوصفي إلى الاستفهام الإنكاري إلى الوقوف بنديه أمام الخصم عارضاً نفسه كأنموذج للتصدي بوجه الطغاة على وقف عقيدة أن تكون موجوداً أولاً(20):
لستُ  الذي يعطي الزّمـان قيادَهُ
                  ويروحُ عن نهـجٍ تنهَّـج ناكِـبا
آليت أقتحم  الطــغاةَ مُصـرِّحاً
                  إذ لم أُعـوَّدْ  أن أكـون الرَّائـبا
وغرستُ رجلي في سعيرٍ عذابهم
                  و ثبتُّ حيث رأى الدّاعي الـهاربا

كشف الجواهري أنّه هو الخصم العنيد الذي لا يلين فحقق الامتزاج الذاتي بحقيقة الفعل الشعري بوصفه ضمير شعبه وصوت أمته، بطريقة موغلة نحو الحقيقة لخلق المفارقة الواضحة المثيرة للتهكم المتوطن في النص كما فعل في قصيدة "يا أمَّ عوف".


(17) نفسه: 3/126.
(18) المفارقة : د. سي. ميوميك، ترجمة: عبد الواحد لؤلؤة، وزارة الثقافة والإعلام (بغداد، 1982م): ص38.
(19) ديوان الجواهري : 3/398.
(20) نفسه : 3/399.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *