الخطاب التهكمي في شعر الجواهري .

ـ 2 ـ
إذا أُتيح لباحث أن يتتبع الخطاب التهكمي لدى الجواهري، ويجري مسحاً شاملاً عليه؛ فإنه سيخرج بنتيجة لافتة للنظر، وهي أن معظم شعره الجاد وغير الجاد لا يخلو من تهكم واحتجاج وتبرم يتبدى وراء الأبيات والكلمات والجمل بصورة غير مباشرة حتى في أكثر القصائد التزاماً، مما يخفي معه حقيقة كونه يستبطن روح المفارقة الصارخة بين الواقع والمثال، أو بين الصدق والزيف، بين الممكن والطموح؛ وما أكثر المفارقات في هذا العصر؛ وأولها مفارقة النفح الساخر والمستديم للمأساة النفسية والجسدية في إشكالية اللفظ والمعنى، والحقيقة والخيال، والحلم واليقظة. فقد كان الجواهري يجسد حاضره وماضيه، تذمره ورضاه، سخطه وامتنانه بطرق مثيرة، ثائرة متوهجة على السطح، متوغلة غائرة في الأعماق وهي محمّلة بالتندر والتهكم والسخط حدّ النكتة والإفراط في الهجاء؛ بوصف التهكم "طريقة أو خاصية مميزة في التعبير، مزاج أو نغمة خاصة تبدي ما تقصده لا بطريقة مباشرة، ولكن من خلال خاصية في النظر إلى الأشياء والشعور
بها والتعبير عنها بطريقة تجمع بين الجد والهزل"(5). لأن التهكم يبعث اللذة والألم معاً، المعرفة وألم الجهل(6). وهو ما يمكن ملاحظته على الكثير من قصائد الجواهري منها: (النقمة، بريد العودة، الرجعيون، إلى الخاتون مس بل، عيادة الشر، طرطرا، هاشم الوتري، التعويذة العمرية، يا أم عوف، عبادة الشر وغيرها.

في قصيدة (الرجعيون) يتفجر النقد المشحون بسخرية لاذعة وهي تخفي إحساساً مضمراً بخيبة الأمل والخذلان من واقع مرير مكبل بالزيف، فيقول:(7)
على بابِ "شيخ المسـلمين" تكدَّسَتْ 
                 جِـياعٌ عَلَـتْهُمُ   ذِلَّـةٌ و عُــراةُ
هُمُ القـومُ أحــياءٌ  تقـولُ كأنَّهم
                 على  باب "شيخ المـسلمين" مَواتُ
يلُمُّ  فُتات الخبزِ في  الترابِ ضـائعاً
                 هُـناكَ ،  وأحـياناً  تُمـصُّ نـُواةُ
بيـوتٌ على أبوابِها البؤس  طـافحٌ
                 و داخِـلَهُنَّ  الأُنسُ  و الشَّــهواتُ

وصف أحد الباحثين هذه القصيدة بأنها "تحفةٌ أدبيةٌ رائعة، تستهويك مع ما فيها من قذع وسباب لتسلسل الفكر فيها، ولأنّها في صميم الموضوع، وبنفس حرّةً تريد الخَلاص من سيطرة الطبقة الروحية على المجتمع العراقي الذي ابتلى بها"(8). لأن الطريقة التي استخدمها الشاعر في النيل من مناهضيه كانت واضحة بحيث تحوّل التهكم إلى نوع من السباب الذي يدفع المتلقي نحو الاتصال المباشرة بالمهجو فيكشف عن طبيعة الوصف مستفيداً من الكناية الشعبية السائدة التي تصف البخيل بأنه (يمصُّ النواة)… فكيف يستطيع جائع أن يحصل على (فتات) الخبر من هؤلاء؟

أن التساؤل المطروح يبدو مشحوناً بالسخرية اللاذعة، وهو يكشف عن إحساس جامح عن الفروق الطبقية وطريقة التفكير وكيفية التعامل مع الجياع إذ يتعمد الشاعر إثارة وعي المتلقي بطريقة ما وهو محصور بين موقفين: على أساس الاستهزاء من ناحية والهدم من ناحية أخرى(9). فهو يستهزئ بالبخلاء حتى يهدم عقيدتهم الفكرية المتأصلة في النفوس لأنها ترى الأشياء بمنظار آخر غير الذي يراه الشاعر ويتحسسه، مما يكشف عن كون بنية الخطاب الشعري هي بنية صراع بين متضادات حينما يحاول أن يهوي بالنظام التقليدي السائد ليؤسس على أنقاضه نظاماً جديداً من الفكر والعقيدة، ثم يأخذ في تصعيد الموقف نحو الفضح والتعرية ليهبط بهِ نحو التشهير والسباب (أحياناً)؛ وهو ما عُرِف عنه من جزالةِ لفظٍ وقوةِ ديباجة وتوهج فكرة حين يبقى متذرعاً بالجديّة وعدم الاكتراث بما يوصمهم بهِ من خسةٍ وتدنٍ، فيقول(10):

تَحكَّمَ باســمِ الدِّينِ كُلُّ  مُذَمَّمٍ
                   و مُرتكبٍ حَفَّتْ  به الشـبهاتُ
و ما الدّينُ إلا آلةٌ يشـهرونها
                   إلى غَرضٍ يقضُــونَهُ، وأَداةُ
وخلفُهُم الأسباطُ تَتْرى، و منهُمُ
                   لُصوصٌ، ومنهم  لاطةٌ  وزُناةُ
فَهَل قَضَتْ الأديان أَنْ لا يذيعُها
                  على الناسِ إلا هذه الــنّكراتُ

لقد كشف الشاعر عن بواطن الأشياء، وأخرج التهكم من مكمنه، وهو يقوم بالكشف التدريجي عن جوهر الحكاية التي بدأت تتوضح بيسر حتى بلغ موطن الطعن القادر على الإجهاز على خصمهِ وبيان خفاياه بطريقة ساخرة متمكنة من كشف الخلل والألم حين يرى الشاعر في قوة الخطاب لذةً تخفف عن نفسه حجم المكابدة بحيث يصبح طرفا الخطاب: اللفظي والمعنوي متقابلين وقادرين على الوصول إلى الهدف في وقت واحد مما يوحي بحقيقة النزوع التهكمي المعبر عن تدرع الشاعر بدرع الهجاء، لأنه شاعر تتلبسه حالة من الإحساس بالعجز أمام القوى المحيطة به فيجعل الشعر أداة قادرة على تحقيق العدالة بين سارق ومسروق. وبين جائع يتلظى وموسرٍ يتجاهل الجياع بكلِّ خسّة، وهو ما يبدو أيضاً في قصيدة (إلى الخاتون مس بل) الطافحة بالشماتة والسخرية والتشفّي، للتعبير عن حقيقة مقت الجواهري للإنجليز.


(5) الفكاهة والضحك : شاكر عبد الحميد، عالم المعرفة (الكويت، 2003م): ص47.
(6) نفسه: ص69.
(7) ديوان الجواهري ، وزارة الإعلام (بغداد، 1973م): 1/468.
(8) الجواهري شاعر العربية : عبد الكريم الدجيلي، مطبعة الآداب (النجف، 1972م): 1/462.
(9) الفكاهة والضحك: ص41، 51.
(10) ديوان الجواهري: 1/468 ـ 469.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *