ـ 3 ـ
يتصاعد خطاب التهكم في شعر الجواهري في القصائد (عيادة الشر..، طرطرا، هاشم الوتري، يا أمّ عوف) ليصبح غرضاً واضحاً مستقلاً مشحوناً بالمواقف، ثم يتبلور بوصفه غرضاً شعرياً يترفع عن الهجاء المقذع في (طرطرا)، في الوقت الذي كانت قصيدة (هاشم الوتري) نمطاً مشاكساً من أنماط الهجاء السياسي المبطن الذي يتخذ الموقف الإيجابي غاية للكشف عن موقفه المناهض الساخر الذي يرفض الوصاية ويحاول أن يعوّض عن لعبة التماهي في أحضان الأجنبي بلعبة المتكتم الذي يفضي بالنتيجة إلى الاحتجاج المرير، ثم الإعلان الواضح عن موطن اللعبة المثيرة، حين تذهب بصفة المادح ثم تعلن عن موقف الهجاء المتحامل القادر على فضح المداهنات الكامنة في الأعماق، أنه يكشف عن خطابه المتهكم عبر حساسية التعبير، وشفافية قلب الموازين لعباً بالكلمات، وهو لعب خفي يتصاعد حد الإفصاح الجموح عن الصراع الدائر بين موقفين: أحدهما موقف الشاعر، والثاني موقف الخصم حيث تتشكل البنية الأساسية لخطاب التهكم في الكشف عن جوهر مضمونه حين يتجه التهكم نحو السخرية المرة التي تدمر الشخصيات المناهضة الأخرى فتتوضح البنية المناقضة، المتكاملة والمتجانسة في الوقت نفسه(11). مما يجعل القصيدة نوعاً من النقيضة المتفردة التي تنقض الواقع بوصفه نصاً سابقاً وتنسج على منواله، وهذا هو الفيض الجواهري القادر على مناكدة الآخر وتقريعه بقوة، فقد كانت قصيدة (طرطرا..!) من النمط الساخر التي تمثل نمطاً شعرياً منقرضاً شادَ عليه الشاعر نمطاً جديداً مستعيناً بالواقع الماثل، تلمس أصولها في أرجوزة تمثل بها عبد الله بن عباس حين خرج الحسين من المدينة قاصداً الكوفة حينما رأى عبد الله بن الزبير يتحيّن الفُرصة للوثوب على الحجاز فقال متمثلاً(12):
يا لكَ مِن قـبّرةٍ بمَـعـمَـرِ
خلالكِ الجوُّ فبيضي و اصفري
ونقري ما شــئت أن تنقري
ثم نُسج على هذا المنوال في العصر العباسي، فكأن الجواهري يرى في البحث عن اقتناص الفرص أسلوباً مذموماً ومرفوضاً منذ القدم، فكيف تحوّلت هذه النقيضة إلى فعل شعري قادر على كشف الصراعات الماثلة في ثنايا الواقع؟ لأنها كانت رداً ساخراً على مرسوم صيانة الأمن العام وسلامة الدولة رقم (56) لسنة (1941م)؛ لذا كانت القصيدة منذ البدء مستندة إلى التهكم الذي يفوق التندر والسخرية، إن لم يكن من النمط الهجائي المكشوف غير المبطن بأيّة زخارف أو غلالات حين يقول(13):
أيْ طرطـرا تطرطري
تقدّمــي تأخــرّي
تشيعي تسـنّني تهوَّدي
تنصَّـري تكرَّدي تعرّبي
تهاتري بالعُنصرِ تعمَّمي
تَبرنطي تعلَّقي تسدَّري
كــوني ـ إذا رُمـتِ
العُلى ـ من قُبلٍ أو دُبُرِ
صــالـحةً كصـالحٍ
عامِــرةً كالعُـمري
إنها صورة حية لواقع العراق من الداخل من حيث المذاهب والأديان والقوميات، والوضع السياسي الذي لما يزل العراق يعاني منه لحد الآن،
والشاعر بحكم ملكته يستطيع أن يستوعب الحركة الداخلية للوطن والمجتمع ثم يتهكم على من يقودنها ويعتقدون بأنهم يبغون مصلحة البلد، فيكشف عن طبيعة الشخصيات المهجوة حين يظهرها عارية على السطح وهي تتقلب من موقف إلى آخر حيث تُشكل هذه الحقيقة مركز الثقل في خطاب التهكم النافذ نحو الأعماق ليجعل الهجاء السياسي سبيلاً إلى النقد اللاذع البعيد عن المصلحة الآنية، والألفاظ المبتذلة، فالقصيدة على رغم وضوحها تستند من حيث المرجعية إلى جانبين:
الأصل الذي نسج على منواله، والواقع الذي صبَّ جامَ غضبهِ عليه وهما يمتزجان امتزاجاً جسدياً وروحياً لا يدع لمتشكك أن يتشكك في قدرة الشاعر على استحضار الماضي والإنشاء على منواله؛ مما يعني أن إشكالية التناص بين (النص القديم) و(النص الجديد) هي إشكالية تَمثُل أكثر منها إشكالية تأثر وتأثير، فالتمثل هنا هو تمثل فكرة نضجت وتفجرت بومضات نفسية مشحونة بتهكم مرّض رموز الماضي الذين كان لهم أمثال في رحم الواقع (أو الحاضر). وهذه الصلة الجدلية بين زمني الماضي والحاضر هي صلة وجود مستديم دفعت الشاعر في الوقت نفسه نحو تأسيس نقيضة متجددة تبلورت على وفق طابع تهكمي يختزن وجع النكتة والضحكة الأليمة المكبوتة التي تتصاعد إلى قهقهة للتعبير عن قوة تأثير الوجع المحيط بالنفس والجسد، فالشاعر لا يميل إلى الهجاء المقذع، والشتم الصريح، والإدانة المباشرة، بقدر كونه يحتج، ويصنع النكتة الساخرة التي تعري طبيعة القوى المضادة له من خلال سلبه لقدراتها في التأثير والشرعية، وتحويلها إلى هُزأة حيث يغتصب (الضفدع) مثلاً سمات (ليث قَسوَر) ويتلبس (الغبي) و(الأحمق) ثوب (العبقري) فيتصاعد الخطاب التهكمي المستوطن في ثنايا الألفاظ ليكشف للمتلقي، من خلال التوظيف البلاغي لمعطيات القصيدة المحكمة النسج التي تفضح عورات الآخر ثم يستخدم القَسم أداة لتوكيد الخطاب بما يبرّز ملامح السخرية التي توحي بالمسكوت عنه، أو النص الغائب، بوصفه نصاً غير مكتوب، أو غير مصرّح بهِ، ولكن يفترض حضوره، لأنّه يحيل إلى العلاقة المقموعة، الذي يمكن اكتشافه عن طريق القراءة الواعية لأنظمة الخطاب، وقوانين تشكيله لمستوياته(12). المتعددة مما يحيل إلى انفتاح النص نحو التأويل للعمل في منطقة (المابين) عبر فضاء الاخـ(ت)لاف الذي هو ليس فضاء الذات، ولا فضاء الموضوع، المكان الذي تقول فيه الذات أنّها ليست ذاتاً متفوقة(14). والجواهري على رغم حساسيته الذاتية يعرض التناقضات الماثلة في فضاء الاخـ(ت)لاف (هنا) بعيداً عن حضوره الذاتي المهيمن، لكنه حضور معبر عن حساسية العلاقة بين الواقع والمثال حين يقول(15):
أي طرطـرا سـيري
على نهـجِهمُ و الأثَرِ
واسـتقبلي يومَكِ مِن
يومهم واســتدبري
و اجمعي أمـركِ من
أمـرهم تسـتكثري
كوني بُغاثاً واسـلمي
بالنفسِ ثم اسـتتري
إن طـوّلوا فطـولي
أو قصّـروا فقصري
أو أجرموا فاعـتذري
أو أنذروا فبشِّـري
ثم يختتم القصيدة بتضمين نصي من قصيدة ذات موقف تاريخي خاص، ثم ينهيها بسرعة تختزن المفارقة التي هي جزء من حركية الخطاب التهكمي الذي ينساب من سيرورة القصيدة وفاعليتها النصيَّة المتحكمة في إثراء النص وتمتين الصلة بين الماضي والحاضر(16):
أيْ طرطـــرا " يا لَكِ
قُـــبرّةً بمـــعمرِ
خلا لك الجـــو" وَ قَد
طاب "فبيضي و اصفري"
"ونقرِّي" من بعــدهم
"ما شــئت أن تُنقرِّي"
قَد غفل الصَّـــياد في
لـندنَ عنكِ فابشــري
جاءت الضربة الأخيرة مثل خاتمة الحكاية التي تستند إلى المفارقة، لأن أية نقيصة تحتوي على موقفين متناقضين، يقومان على الاستفهام الذي يصعّد حركة الكشف عن خفايا الخطاب التهكمي الذي يتدفق عبر شحنة دافعة تلهب الأجواء بوميض متوهج يندفع من خلل الرّماد ليتفجر لهباً. مما يعبر عن فاعلية النص وتعدد رؤاه في الوقت نفسه.
(11) الفكاهة والضحك: ص41، 44، 50.
(12) تاريخ الطبري ، دار المعارف (القاهرة، 1968م): 5/384.
(14) ديوان الجواهري: 3/ 121.
(13) التفاعل النصي : نهلة فيصل الأحمد، مؤسسة اليمامة (الرياض، 1423هـ): ص287.
(15) نصيات: هيو. ج. سلفرمان، المركز الثقافي العربي (بيروت، 2002م): ص6.
(16) ديوان الجواهري: 3/125.