ـ 5 ـ
تنبض قصيدة (يا أمَّ عوف..) بالسخرية والاستهجان منذ مطلعها من خلال ما يكتنفها من مفارقة تحتمل شيئاً من التأويل الذي يحاول "الكشف عمّا هو متخف" عبر فضاء الاختلاف، وجدل المباعدة والملاءمة، مما يستلزم التماهي النفسي التقليدي للقارئ بالشخصيات والسمات الموصوفة، ويستلزم (بالأحرى) تبييناً لوضعيات النص(21). حين يدمج شخصه مع نداء الجماعة في مواجهة (أم عوف) وهي راعية غنم ريفية استضافت الشاعر عام 1955م، فقال(22):
يا "أمَّ عَـوفٍ" عجـيباتٌ ليالينا
يُدنينَ أهواءها القصوى و يقصينا
في كلِّ يـومٍ بلا وَعي و لا سَببٍ
يَنزلن فاسـاً في حُـكمٍ و يُعلينا
يُدفِنَ شهدَ ابتسـامٍ في مراشفنا
عَـذباً بعَلقَمِ دمـعٍ في مـآقينا
و يقترحـنَ عـلينا أنْ نجـرعَهُ
كالسّم يَجرعهُ "سـقراطٌ" توطينا
تقوم المفارقة التأويلية على استغلال مساحة (المابين) المحصورة بين نقيضين أو وجهين حيث يبرز الفرق بينهما محمّلاً بالاستخفاف، فوجه العجب بهذه الليالي التي هي ليالي الشاعر وصحبه هو مفارقة (الإقصاء) و(الدنو)، ومفارقة (النزول) و(العلو)، ومفارقة (العذوبة) و(العلقم) ومفارقة (القتل) و(التوطين) إذ تبدو هذه الحركة بين النقائض بسيطة واعتيادية من حيث الافتراض، ولكنها من حيث حقيقة الأمر تبدو ساخرة تدفع الشاعر نحو التهكم من وضع مزرٍ يقوم على مفارقات غير ممكنة. ثم يتضخم هذا التأسيس على وجود اللاممكن وينمو ليصبح نافذة تتسع باتجاه الاستخفاف المبطن بالهجاء المشحون بلوعة الألم والعذابات الدائمة بما يعكس المدى الواسع الذي تشتغل عليه لغة الشاعر وهي تجوب فضاء الاختلاف لتحقيق المواجهة بين المتلقي والنص عبر حركة الصراع المتمثل بطريقة ندية مفعمة بالاحتجاج، أو بين الشاعر والآخر حيث تتمحور مفارقة (نحن) و(هي)؛ المفارقة التي تدفع حركات (الطباق) البلاغية المرسخة في اللغة الشعرية نحو صراع متفجر بالاختلاف، وهو اختلاف يمثل الصراع بين الحقيقة والمثال بحيث أصبحت الراعية (أم عوف) موضوعاً للمقارنة بين طرفين متصلين بذاتية الشاعر نفسه على رغم افتراضه أن هذه المقارنة هي (بينها) و(بينهم) كمحاولة لتبيين الاختلاف عبر حساسية الذات حينما انتقل من مفارقة (بيت الشَّعر) إلى (بيت الشِّعر) ليصل إلى الحرمان الذاتي حيث تتواصل رؤى الشاعر حد التوجع والإحساس بالسخرية عبر ما يبثه من حياة هذه الراعية وشعور بضياع الأحلام، والتيقن بأن من يهدينا (ضليل) وهي ثورية واضحة تقوم على استحضار الماضي عبر شخصية الملك الضّليل أول من قدح زناد الشعر، وعلى أن من يقودنا (ضال) أي تائه فعقد مقارنة بين رعاة البلد الذين ضلّوا وبين راعية لا تَضِلُّ؛ مما يكشف عن طبيعة الخطاب التهكمي الكامن في القصيدة، وهي تخفي فكرة (المناقضة/ المعارضة) هذه والتي هي نوع من (التضليل) الذي يذهب بعكس ما يظهره الخطاب في علاقاته النصية(23). لكي يتمكن من مكاشفة المتلقي بالتدريج حين يعرض له حالة من حالات بلده عبر دلالة الاختلاف التي تستند إلى أسلوب (الطباق والثورية) حينما يقول(24):
إنّا أتيناكَ من أرضٍ مـلائـكُها
بالعُهرِ تُرجِم أو تُرضي الشياطينا
من عهدِ "آدم" والأقـوامُ مزجيةٌ
خوف الشرورِ، الضحايا والقرابينا
أكلَّـما ابتدعَ الإنســانُ آلهـةً
للخـيرِ صـيَّرها شـرٌّ ثعـابينا!
فيعقد مقارنة بين الخيرِ والشرّ مشيراً إلى بدءِ ولادة الشر منذ خلق الله (آدم) أباً للبشرية، فكأنه يمدُّ بأفقهِ نحو حركة الصراع الأزلي بين المتناقضات وحركة الوجود، وكأن جدل الحياة كلها يقوم على صراع زبدته العدالة بوصفها سيرورة دائمة وأن حقيقة الشر مفترضة لا وجود لها إذ تبدو مفارقة الحقيقة والافتراض؛
ولهذا كانت الثعابين طارئة كما هي حال (الشيطان/ الحية) بوصفهما رمزاً للخديعة التي هي الأخرى فعل طارئ على حركة الوجود، وسيرورة الحياة مما يكشف عن بنية الصراع المستديمة، من هنا يرفض الشاعر متهكماً لعبة الخديعة الطارئة بطريقة ساخرة عبر لغة متفجرة تجمع بين ثراء الماضي وقوة تأثيره، وبين نضج الأسلوب الشعري المتجدد الذي جعل القصيدة تبدو طازجة في كل حين مما ولّد مفارقة أخرى أحدثها الزمن نفسه حين جعل خطاب الجواهري الشعري يُحشِّد قدراته التهكمية كجزء من كيانه ووجوده الذي لا ينفصل عنه بحيث يمكن القول أنه إحدى خصائص القصيدة الجواهرية، وإن اختلفت أجواؤها وأعراضها وموثباتها. أي أنّها قصيدة ذات قدرة هجائية مبطنة تقوم بتشكّل أبعادها داخلياً من خلال الحركة الجوهرية للنص بمدياته الفنية والفكرية نتيجة ما يكتنفه من روح متمردة تنعكس عن تجليات شخصية الشاعر في نصه الذي يتململ تحت نوع من الاحتجاج وعدم التسليم للظروف والوقائع. وهو ما يجعل القصيدة الجواهرية ذات طابع هجائي واضح، بعيد عن الابتهاج، قريب من التمرد والاحتجاج لكي يبدد الرتابة والاستسلام ويعبر عن رفض جلي للخضوع، مما يعني أنها قصيدة تخفي أكثر مما تظهر، فهي قصيدة مكهربة في أعماقها بكل ما تطرحه ملامحها الخارجية.
(21) نفسه : 3/402.
(22) نفسه : 4/199.
(23) التفاعل النقي: ص294.