أبو العلاء المعري .

عَلَى الحَصِيرِ.. وَكُوزُ الماءِ يَرْفُدُهُ
وَذِهْنُهُ .. وَرُفُوفٌ تَحْمِلُ الكُتُبَا

أَقَامَ بِالضَّجَّةِ الدُّنْيَا وَأَقْعَدَهَا
شَيْخٌ أَطَلَّ عَلَيْهَا مُشْفِقَاً حَدِبَا

بَكَى لأَوْجَاعِ مَاضِيهَا وَحَاضِرِهَا
وَشَامَ مُسْتَقْبَلاً مِنْهَا وَمُرْتَقَبَا

وَلِلْكَآبَةِ أَلْوَانٌ، وَأَفْجَعُهَا
أَنْ تُبْصِرَ الفَيْلَسُوفَ الحُرَّ مُكْتَئِبَا

تَنَاوَلَ الرَّثَّ مِنْ طَبْعٍ وَمُصْطَلَحٍ
بِالنَّقْدِ لاَ يَتَأبَّى أَيَّةً شَجَبَا

وَأَلْهَمَ النَّاسَ كَيْ يَرضَوا مَغَبَّتَهُم
أَنْ يُوسِعُوا العَقْلَ مَيْدَانَاً وَمُضْطَرَبَا(9)

وَأَنْ يَمُدُّوا بِهِ فِي كُلِّ مُطَّرَحٍ
وَإِنْ سُقُوا مِنْ جَنَاهُ الوَيْلَ وَالحَرَبَا

لِثَوْرَةِ الفِكْرِ تَأْرِيخٌ يُحَدِّثُنَا
بِأَنَّ أَلْفَ مَسِيحٍ دُونهَا صُلِبَا

إنَّ الذِي أَلْهَبَ الأَفْلاكَ مِقْوَلُهُ
وَالدَّهْرَ .. لاَ رَغَبَا يَرْجُو وَلاَ رَهَبَا

لَمْ يَنْسَ أَنْ تَشْمَلَ الأَنْعَامَ رَحْمَتُهُ
وَلاَ الطُّيُورَ .. وَلاَ أَفْرَاخَهَا الزُّغُبَا

حَنَا عَلَى كُلِّ مَغْصُوبٍ فَضَمَّدَهُ
وَشَجَّ مَنْ كَانَ، أَيَّا كَانَ، مُغْتَصِبَا

سَلِ المَقَادِيرَ، هَلْ لاَ زِلْتِ سَادِرَةً
أَمْ أَنْتِ خَجْلَى لِمَا أَرْهَقْتِهِ نَصَبَا

وَهَلْ تَعَمَّدْتِ أَنْ أَعْطَيْتِ سَائِبَةً
هَذَا الذِي مِنْ عَظِيمٍ مِثْلِهِ سُلِبَا

هَذَا الضِّيَاءُ اَلذِي يَهْدِي لمَكْمَنه
لِصَّاً وَيُرْشِدُ أَفْعَى تَنْفُثُ العَطَبَا

فَإِنْ فَخَرْتِ بِمَا عَوَّضْتِ مِنْ هِبَةٍ
فَقَدْ جَنَيْتِ بِمَا حَمَّلْتِهِ العَصَبَا

* * *

تَلَمَّسَ الحُسْنَ لَمْ يَمْدُدْ بِمُ بْصِرَةٍ
وَلاَ امْتَرَى دَرَّةً مِنْهَا وَلاَ حَلَبَا(10)

وَلاَ تَنَاوَلَ مِنْ أَلْوَانِهَا صُوَرَاً
يَصُدُّ مُبْتَعِدٌ مِنْهُنَّ مُقْتَرِبَا

لَكِنْ بِأَوْسَعَ مِنْ آفَاقِهَا أَمَدَاً
رَحْبَاً، وَأَرْهَفَ مِنْهَا جَانِبَا وَشَبَا

بِعَاطِفٍ يَتَبَنَّى كُلَّ مُعْتَلِجٍ
خَفَّاقَه وَيُزَكِّيهِ إِذَا انْتَسَبَا(11)

وَحَاضِنٍ فُزَّعَ الأَطْيَافِ أَنْزَلَهَاَ
شِعَافَه وَحَبَاهَا مَعْقِلاً أَشِبَا


(9) – المغبة : العافية.
(10) – امترى : احتلب.
(11) – المقصود بـ” عاطف” هنا القلب، وب”معتلج” ما يخالجه من العواطف.