أبو العلاء المعري .

عَانَى لَظَى الحُبِّ "بَشَّارٌ" وَعُصْبَتُهُ
فَهَلْ سِوَى أَنَّهُمْ كَانُوا لَهُ حَطَبَا

وَهَلْ سِوَى أَنَّهُمْ رَاحُوا وَقَدْ نَذَرُوا
لِلْحُبِّ مَا لَمْ يَجِبْ مِنْهُمْ وَمَا وَجَبَا

هَلْ كُنْتَ تَخْلُدُ إِذْ ذَابُوا وَإذْ غَبَرُوا
لَوْ لَمْ تَرُضْ مِنْ جِمَاحِ النَّفْسِ مَا صَعُبَا

تَأْبَى انْحِلالاً رِسَالاتٌ مُقَدَّسَةٌ
جَاءَتْ تُقَوِّمُ هَذَا العَالَمَ الخَرِبَا

يَا حَافِرَ النَّبْعِ مَزْهُوَّاً بِقُوَّتِهِ
وَنَاصِرَاً في مَجَالِي ضَعْفِهِ الغَرَبَا(19)

وَشَاجِبَ الْمَوْتِ مِنْ هَذَا بِأَسْهُمِهِ
وَمُسْتَمِنَّاً لِهَذَا ظِلَّهُ الرَّحِبَا

وَمُحْرِجَ المُوسِرِ الطَّاغِي بِنِعْمَتِهِ
أَنْ يُشْرِكَ الْمُعْسِرَ الخَاوي بِمَا نَهَبَا

والتَّاج إِذْ تَتَحَدَّى رَأْسَ حَامِلِهِ
بِأَيِّ حَقٍّ وَإِجْمَاعٍ بِه اعْتَصَبَا

* * *

وَهَؤُلاء الدُّعَاةُ العَاكِفُونَ عَلَى
أَوْهَامِهِمْ، صَنَمَاً يُهْدُونَهُ القُرَبَا(20)

الحَابِطُونَ حَيَاةَ النَّاسِ قَدْ مَسَخُوا
مَا سَنَّ شَرْعٌ وَمَا بِالفِطْرَةِ اكْتُسِبَا

وَالفَاتِلُونَ عَثَانِينَاً مُهَرَّأَةً
سَاءَتْ لِمُحْتَطِبٍ مَرْعَىً وَمُحْتَطَبَا(21)

وَالْمُلْصِقُونَ بِعَرْشِ اللهِ مَا نَسَجَتْ
أَطْمَاعُهُمْ : بِدَعَ الأَهْوَاءِ وَالرِّيَبَا

وَالْحَاكِمُونَ بِمَا تُوحِي مَطَامِعُهُمْ
مُؤَوِّلِينَ عَلَيْهَا الجِدَّ وَاللَّعِبَا

عَلَى الجُلُودِ مِنَ التَّدْلِيسِ مَدْرَعَةٌ
وَفِي العُيُونِ بَرِيقٌ يَخْطَفُ الذَّهَبَا

مَا كَانَ أَيُّ ضَلالٍ جَالِباً أَبَدَاً
هَذَا الشَّقَاء الذِي بِاسْمِ الهُدَى جُلِبَا

أَوْسَعْتَهُمْ قَارِصَاتِ النَّقْدِ لاذِعَةً
وَقُلْتَ فِيهِمْ مَقَالاً صَادِقَاً عَجبَا

"صَاحَ الغُرَابُ وَصَاحَ الشَّيْخُ فَالْتَبَسَتْ
مَسَالِكُ الأَمْرِ : أَيٌّ مُنْهُمَا نَعَبَا"

أَجْلَلْتُ فِيكَ مِنَ المِيزَاتِ خَالِدَةً
حُرِّيَّةَ الفِكْرِ وَالحِرْمَانَ وَالغَضَبَا

مَجْمُوعَةً قَدْ وَجَدْنَاهُنَّ مُفْرَدَةً
لَدَى سِوَاكَ فَمَا أَغْنَيْنَنَا أَرَبَا

فُرُبَّ ثَاقِبِ رَأْيِ حَطَّ فِكْرَتَهُ
غُنْمٌ فَسَفَّ .. وَغَطَّى نُورَهَا فَخَبَا

وَأَثْقَلَتْ مُتَعُ الدُّنْيَا قَوَادِمَهُ
فَمَا ارْتَقَى صُعُدَاً حَتَّى ادَّنَى صَبَبَا

بَدَا لَهُ الحَقُّ عُرْيَانَاً فَلَمْ يَرَهُ
وَلاحَ مَقْتَلُ ذِي بَغْيٍ فَمَا ضَرَبَا

وَإِنْ صَدَقْتُ فَمَا فِي النَّاسِ مُرْتَكِبَاً
مِثْلُ الأَدِيبِ أَعَانَ الجَوْرَ فَارْتكبَا

هَذَا اليَرَاعُ، شوَاظُ الحَقِّ أَرْهَفَهُ
سَيْفَاً، وَخَانِعُ رَأْيٍ رَدَّهُ خَشَبَا

وَرُبَّ رَاضٍ مِنَ الحِرْمَانِ قِسْمَتهُ
فَبَرَّرَ الصَّبْرَ وَالحِرْمَانَ وَالسَّغَبَا

أَرْضَى، وَإِنْ لَمْ يَشَأْ، أَطْمَاحَ طَاغِيَةٍ
وَحَالَ دُونَ سَوَادِ الشَّعْبِ أَنْ يَثِبَا

وَعَوَّضَ النَّاسَ عَنْ ذُلٍّ وَمَتْرَبَةٍ
مِنَ القَنَاعَةِ كَنْزَاً مَائِجَاً ذَهَبَا

جَيْشٌ مِنَ الُْمُثُلِ الدُّنْيَا يَمُدُّبِهِ
ذَوُو الْمَوَاهِبِ جَيْشَ القُوَّةِ اللَّجَبَا

* * *

آمَنْتُ بِالله وَالنُّورِ الذِي رِسَمَتْ
بِهِ الشَّرَائِعُ غُرَّاً مَنْهَجَاً لَحِبَا

وُصْنْتُ كُلَّ دُعَاةِ الحَقِّ عَنْ زِيَغٍ
وَالْمُصْلِحِينَ الهُدَاةَ، العُجْمَ وَالعَرَبَا

وَقَدْ حَمِدْتُ شَفِيعَاً لِي عَلَى رَشَدِيَ
أُمّاَ وَجَدْتُ عَلَى الإِسْلامِ لِي وَأَبَا

لَكِنَّ بِي جَنَفَاً عَنْ وَعْيِ فَلْسَفَةٍ
تَقْضِي بِأَنَّ البَرَايَا صُنِّفَتْ رُتَبَا(22)

وَأَنَّ مِنْ حِكْمَةٍ أَنْ يَجْتَبَي الرُّطَبَا
فَرْدٌ بِجَهْدِ أُلُوفٍ تَعْلِكُ الكَرَبَا(23)


(19) – النبع : شجر يعرف بقوته وتتخذ منه السهام والقسيّ، والغرب: شجر معروف بسهولة انكساره، ومعنى البيت؛ الإشارة إلى شجب المعرّي القوة بكل مظاهرها، واحتضانه الضعفاء من كلّ جنس.
(20) – يريد بهم المشعوذين باسم الدين، والذين يروجون للبدع والخرافات، ويضيقون آفاق الحياة على الجماهير.
(21) – العثانين : جمع عُثنون: اللحية.
(22) – الجنف : الميل والانحراف.
(23) – الكرب : أصول سعف النخل.