الجواهري (الموقف الملتزم وتداعيات الغربة) : د. صبيح الجابر .

غربة شعراء الكلاسية الجديدة في العراق :
مثلما خرج عظماء الأدب الروسي في القرن التاسع عشر من (معطف غوغول)، خرج رواد القصيدة الكلاسية الجديدة في العراق من بين صفوف علماء الدين ومفكري وأدباء العراق وشعرائه إبان عصر النهضة في أواخر القرن التاسع عشر، وبعد تأثيرات أفكار جمال الدين الأفغاني ورفاعة الطهداوي ومحمد عبده. وكان في مقدمة هؤلاء الشعراء، محمد سعيد الحبوبي، ومحمد مهدي البصير، وأحمد الصافي النجفي، والزهاوي والرصافي والكاظمي والشبيبي، ثم الجواهري الذي كان أصغرهم سناً كما يبدو. هؤلاء مثلوا مرحلة أدبية واحدة تكاد تكون متقاربة الأبعاد الزمنية، وعملوا على تسخير أشعارهم لخدمة قضيتين أساسيتين، هما: القضية السياسية، والقضية الاجتماعية، وهما قضيتان حداثيتان ـ إذا ما نظرنا إليهما اليوم بمنظور مطلع القرن العشرين ـ تجاوز بهما شعراء العراق مرحلة الرومانسية الأوربية التي امتدت تأثيراتها إلى شعرنا العربي في ذلك الوقت.

غير أن اهتمام شعراء هذه المرحلة بقضيتي السياسة والمجتمع العراقي لم يترك لهم متسعاً من التأمل والتأني للارتقاء بالقصيدة الكلاسية إلى مستوى الإبداع الراقي القيم، المنطوي على عناصر التجديد التي تمس البنية النسيجية للقصيدة، مثلما مسّ هذا الاهتمام البنية الموضوعية، وحرك ذلك الواقع الراكد في جميع مستوياته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والأدبية.

فالرصافي الذي كان شاهداً على عصرين: العثماني والملكي، ورغم العطاء الزاخر الذي تميز به شعره، إلا أنه لم ينعم بالراحة ولم يهنأ بالسعادة، فقد عاش فقيراً ومات وحيداً. إلا أنه ربما كان أوفر حظاً من صنويه الكاظمي والجواهري، لأنه مات ودفن في وطنه. أما الكاظمي فقد مات فقيراً في القاهرة، والجواهري اختار مقبرة (الغرباء) في دمشق.

والجواهري، الذي نشرت له جريدة (العراق) في مطلع العشرينات أول قصيدة (الشاعر المقبور) وعمره ثمانية عشر عاماً، كانت تحيطه دائرتان من شعراء الكلاسية الجديدة:

الدائرة الأولى : نشأ وترعرع بين شعرائها (الأحياء)، الزهاوي والرصافي والكاظمي والشبيبي.

والدائرة الثانية : دائرة الجيل الذي يتقدمه هو كشاعر كلاسي ناشئ، يصحبه فيها علي الشرقي، وأحمد الصافي النجفي، والحبوبي، ومحمد صالح بحر العلوم، وغيرهم الكثير من شعراء هذا الجيل، الذين كانت لهم عطاءات إبداعية ثرة، وكانت لهم مواقفهم المبدئية الجريئة إزاء الأحداث والمتغيرات المحيطة بهم، حيث كانت مثل هذه المواقف والوقفات الوطنية سبباً رئيسياً في تشريد ونفي وحرمان الكثير منهم.
وبالرغم من بساطة النموذج الاجتماعي والسياسي الذي قدمه الشاعر النجفي، فإنه لم يسلم من بطش السلطات الحاكمة، فقد اضطر إلى الهرب هو وأخوه بعد فشل ثورة العشرين، حيث عاش الغربة ما بين إيران والكويت، وليستقر بعد ذلك في دمشق(6).

هؤلاء هم أبرز شعراء القصيدة الكلاسية في العراق، وجميعهم تشردوا وتغربوا وذاقوا مرارة الغربة وأعياهم الشوق والحنين إلى وطنهم، تغربوا في المدن العربية، وفي المدن التركية والإيرانية، حتى أن بعضهم مات في غربتهم المكانية وبعضهم الآخر مات في غربته الروحية داخل وطنه.
ولكن علينا أن نقرّ بأن غربة هؤلاء الشعراء العراقيين لم تكن في بلدان أجنبية غريبة عن الشاعر ولم تكن (خلعاً) كما فعلت القبائل في الجاهلية، كما لم تكن هجرة وبعاداً لا رجعة فيهما في بلدان المهاجر الامريكية أو الأوربية مثلما فعل أدباء وشعراء الشام ولبنان في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، باستثناء غربة الجواهري في ما بعد.

غربة الجواهري : يبدو أن هذا الشاب ـ الجواهري ـ الطالع تواً من مجالس النجف الفقهية والدينية واللغوية والأدبية والمجتهد في حفظ القرآن والحديث ومقطوعات النثر العربي الثقيلة وقصائد الشعر الطوال، كان في الوقت نفسه يعد ذاته وشخصيته باتجاه آخر مخالف لما أراده له أبوه وأصحاب مجلسه، أو مخالف لما أرادته له بيئة النجف وعلماؤها.
والجواهري، منذ أن وعى ذاته وقدراته الذهنية والاستيعابية والإبداعية في مجال الشعر، راحت تعتمل في داخله غربة عارمة اكتشف من خلالها غرابة كل ما يدور حوله، وما تدعوه إليه بيئته النجفية بدءاً بالمكان وأشيائه من جبة وعمامة مروراً بمسلماته التقليدية من عادات وأعراف، وصولاً إلى الأفكار والوعي السائد.. في الوقت الذي كانت فيه شخصيات البحتري والمتنبي وأبي تمام وبشار بن برد وأبي العلاء المعري تتلبسه بعنف وتلوي عنقه باتجاه إبداعاتها وطرائق حياتها، وأساليب معيشتها ومواقفها إزاء مجتمعاتها، حتى وجد ذاته في الأخير وقد أضحت واحدة من هذه الشخصيات تعيش معها وتنادمها وتأتلف معها، وتأنس بأفكارها، وتعجب بسلوكها.. كما وجد ذاته تتغرب تدريجياً وتبتعد عن تلك الأجواء المفعمة بطقوس الفقه وعلوم الدين، وتتجه صوب ما أراد لها أن تكون، وتتغنى بلغة هي ليست اللغة التي أرادها له أبوه. وليست اللغة المستعملة بين الناس في التفكير، لأن الناس لا يفكرون شعراً، وإنما هي لغة خاصة على أوزان معلومة تؤلفها عبقرية الشاعر ـ حسب أرسطو.

هكذا ولد هذا الشاعر المتمرد، وهكذا تكلم بلغة الفن، وهكذا أقام الدنيا ولم يقعدها.

الجواهري، إذن، هو واحد من ذلك الرهط الشامخ، رهط امرئ القيس، وطرفة بن العبد، وعروة بن الورد، والشنفرى، والبحتري، وأبي تمام، والمتنبي، وبشار، وأبي العلاء المعري، ينتمي إليهم في شموخهم ولغتهم وفنهم، ولكنه لا ينتمي إلى عصورهم، ولا إلى همومهم، ولا إلى غربتهم وأسباب تغربهم، فضلاً عن تفرده في شخصيته الإبداعية المتميزة.
ولما كان عصر الجواهري عصر صراع شديد بين الحق والباطل، بين الجلادين وضحاياهم، فإن شاعراً مثل الجواهري لابد وأن يحدد موقفه، ويعلن انتماءه وانحيازه لأحد طرفي النزاع أو الصراع، وليس هناك من أحد يشك بانتماء الجواهري لغير حق الضحايا ودم الشهداء، ولغير عامة الناس، الذين بهم نبتدئ ـ كما يقول ـ وكان عليه أن يدفع ثمن انتمائه هذا غالياً.. فكان النفي وكانت الغربة.
غير أن سنوات الغربة الطويلة التي قاربت الأربعين عاماً ـ رغم تقطعها أحياناً ـ لم تدفع به إلا باتجاه الوطن، وإلا باتجاه هموم مواطنيه ومعاناتهم وعذاباتهم التي لا تنتهي.. وبدلاً من أن تقطع الغربة صلته بالوطن، راحت تعزز هذه الصلة، وتدفع به لتفقد أحوال أبنائه في كل شبر من أرض العراق.
ولا غرابة في ذلك مادمنا قد سلّمنا سلفاً بأنه واحد من أولئك العظام الذين لا يأبهون بغربة المكان ولا تهزمهم معاناتها، فالبيئة واحدة، والرؤى متقاربة، والانحياز إلى جانب الحقيقة وخير الشعوب لا تمنعه أسوار الغربة، وكلمات الحق المدوية قادرة على أن تصل إلى مديات أبعد من مديات الغربة.. وبدلاً من أن يرثي الشاعر ذاته، كما فعل ـ قديماً ـ مالك بن الريب، وـ حديثاً ـ بدر شاكر السياب، انشغل شاعرنا بهجاء الطغاة ورصد معاناة الضحايا والمقهورين. وهو يرى بأنه يعيش وسط هموم وانشغالات أبناء جلدته، لذلك لم نجده يفلسف معاناة الغربة، ويشكو همّه عوضاً عن هموم مجتمعه طيلة عمره الإبداعي الذي قارب خمسة وسبعين عاماً، وإذا أراد أن يكتب شيئاً عن هذه المعاناة، فإننا لا نجد إلا شخصية شعبه من خلال شخصيته هو، أو شخصيته هو من خلال شخصية شعبه.
وحين عاد الشاعر إلى وطنه في أواخر الستينات، كان قد شعر بثقل وطأة السنين وبتداعيات سنوات الغربة القاسية، فأراد أن يريح ركابه، لكن ـ كما يبدو ـ لا راحة في العراق ولا استقرار، فحزم حقائبه وعاد من حيث أتى:
كفاكَ جـيلان محمولاً على خطرِ
                 أرح ركابكَ  من أينٍ و من عـثرِ
كأنّ مغـبرّه  ليـلٌ  بلا سـحرِ
                 كفاكَ موحـشُ دربٍ رحتَ  تقطعُهُ
في كلّ يوم له  عشٌ على شـجرِ
                 ويا أخا الطير في وردٍ وفي صـدر
فالجواهري حين عاد كان يظن أن غربة جيلين يمكن أن تضع حداً لنزيف النازحين والهاربين والمنفيين من العراق، ولكن ـ كما قال أحدهم ـ الشر أطول عمراً من الشاعر، والطغاة (القصار العمر) هم الطغاة الذين يعمرون بعد القافية، الحزن أطول عمراً من العربي الحزين، والمنفى أطول عمراً من المنفيين، والشوق أطول عمراً من المشتاق، والغربة أطول عمراً من الغريب(7).
وفي هذا المقام لابد من الإشارة إلى بعض أشعار الجواهري التي نظمها في شبابه وأسماها (بريد الغربة) وهو في إيران منذ مطلع العشرينات من القرن العشرين، منها، مثلاً، قصيدة (سلام على أرض الرصافة) التي نشرت في مجلة (العرفان) في شباط عام 1923 والتي يقول فيها(8):
إذا ما تصابى ذو الهوى لربى نجدِ
                 سلامٌ إلى أرض العراق وبردها
وفي قصيدة أخرى عنوانها (على حدود فارس) وهو يقضي أيام الصيف عام 1924 في إيران وأهداها إلى صديقه الشيخ محمد رضا ذهب في النجف يقول فيها(9):
كلـفتم قلبي ما لا يطـاق
                 أحـبابنا بين محاني  العراق
وكيف لا والبعدُ مرُّ المذاق
                 العـيش مرٌّ  طعـمه بعدكم
أما قصيدة (بريد الغربة) التي نظمها عام 1926 وهو قضي شهور الصيف في إيران ونشرت في جريدة (الفيحاء) عام 1927، فتكاد تقترب إلى حد ما من قصائد الغربة والحنين التي نظمها الشاعر في أثناء غربته الطويلة في منافيه العديدة. يقول فيها(10):
و هفا إليكم  قلبه الخـفّاقُ
                 هبّ النسيمُ فهبت الأشواقُ
وحمامُ هذا الأيكِ و الأطواقُ
                 وتوافقا فتخالفا هو و الأسى
في هذه الأشعار وقبلها بعض أشعار الغربة والحنين لدى شعراء الكلاسية الجديدة في العراق، كانت معالجات شعرائنا لها أفقية الامتداد والمستوى تبرز عند هذا الشاعر دون سواه، وفي هذه القصيدة أو تلك مع عدم الانتباه إلى إسقاطها عمودياً على فنية القصيدة أو على تجاربهم الشعرية الخاصة، ودون التعمق في فلسفتها، وبما يتناسب وتأثيراتها المؤلمة على كينونة الروح الإنسانية التي تعاني مأساة الغربة وتداعياتها، حيث جاءت تلك المعالجات سطحية الامتداد، وعلى شكل إشارات عابرة لا تعكس عمق المعاناة الإنسانية جراء غربة الروح والمكان. ولكن ما إن تلقفت الغربة الجواهري في عام 1961، حتى شهدت المنافي في عام 1963 وما تلاه، بعد شباط الأسود هجرة مبدعين آخرين مثل: الشاعر الراحل بلند الحيدري، والشاعر الراحل عبد الوهاب البياتي، والعالم الراحل عبد الجبار عبد الله، والشاعر سعدي يوسف، والشاعر مظفر النواب، والراحل غائب طعمة فرمان، والفنان محمود صبري، وغيرهم الكثير(11).
بعد ذلك، استمر نزيف العراق لمبدعيه، وهذه المرة على شكل موجات خطيرة بدأت منذ أواخر عام 197  وشملت أبناء العراق بقومياته وأقلياته المختلفة، وتلاحقت بشكل مخيف بعد حرب الخليج الثانية، وما خلفته من كوارث مرعبة.
ولكن غربة الجواهري عام 1961 شكلت نقطة الارتكاز الأولى التي استند إليها مبدعو العراق الفارون من جحيم السلطة، وكانت ملحمة (دجلة الخير) المنعطف الجديد في شعر الغربة والحنين لدى الشعراء العراقيين المنفيين خارج وطنهم، وأصبح بعدها شعر الغربة باباً واسعاً لشعراء المنفى.
والقصيدة نشرت في صحيفة (المستقبل) في بغداد مطلع شباط عام 1963 وقبل الانقلاب الأسود بأيام:
يا دجلة الخير  يا أم البسـاتينِ
                 حييتُ سفحك عن  بعدٍ فحييني
لوذَ الحـمائم بين الماء و الطينِ
                 حييت سـفحك ظمآناً ألوذ به
ثم يقول:
وجُـسَّ أوتارَه بالرفقِ واللينِ
                 يا نازحَ الدارِ ناغِ العودَ ثانيةً
فيها الحزازاتُ تَغلي كالبراكينِ
                 لعلّ نجـوى تداوي حرَّ أفئدةٍ
حين نشرت جريدة (المستقبل) قصيدة الجواهري هذه، قالت عنها: رائعة الجواهري الجديدة هذه جاءت كمعظم روائعه الشعرية، فريدةً، شامخةً شموخ الذرى، تلمس فيها الطبيعة الإنسانية في ثورتها وهدوئها، في تحرقها وحنينها إلى ما تصبو إليه، وإلى ما حرمت منه بسبب من الأسباب. إنك تلمس في هذه الأبيات المتلاحقة شوق الجواهري إلى وطنه إلى دجلة وإلى ضفافها واصطفاق أمواجها، وتحس خلال استعراضك لأبيات القصيدة كيف يتصل الجواهري بألف سبب وسبب بماضي هذا الشعب وبحاضره ومستقبله.
وهذه القصيدة تنطلق من تجربة المنفى، وها هنا نجد أنفسنا أمام تجربة جديدة، هي تجربة الشاعر الملتزم بقضايا مجتمعه وأمته، والذي يعاني من منفاه لا من أجل ذاته، ولكن من أجل المجتمع الذي ينتمي إليه. نلتقي في هذا النص بنزعة وطنية تبدأ من الأول بتحية الشاعر لوطنه، وتأتي هذه التحية من ضمير المتكلم المفرد إلى ضمير المخاطب المفرد (حيث سفحك) ومن هذا المعطى اللغوي نستنتج مدى الرابطة التي تجمع الشاعر بوطنه(12).

حين اختمرت فكرة مفارقة العراق ـ حفاظاً على حياته ـ مضى في طريقه للمشاركة في تكريم شاعر لبنان (الأخطل الصغير) يباركه ويبثه شكواه، ويخاطبه بهذه المرارة والألم:
شــكوى  أهزّك يا حبيبي
                 أبشـــارةٌ  و بـأيّـما
أم الغـريب إلى الغـريب
                 شكوى القريب إلى القريب
من رافـديّ  بلا نصـيبِ
                 هل صـكّ سـمعكَ  أنني
يذكر الدكتور عبد الحسين شعبان في كتابه (الجواهري ـ جدل الشعر والحياة) أن رحيل الجواهري رحيل متقطع لكنه متواصل، ظل مصحوباً بحنينه إلى الوطن، بل حمل حنين الوطن في قلبه حتى صارا متلازمين لبعضهما، فقد كان يجري في ثنايا الأحداث ولا يعرف المرسى إلا على شاطئ الشعر. ويقول حين سألته: كيف عشت خلف الحدود؟ ماذا كان هناك؟ زمهرير الغربة أم فردوس الحرية؟
أجاب: الاثنان معاً، كان هناك الفردوس المفقود والموعود معاً، كانت براغ الذهبية مدينة الأبراج والجمال، صحيح أننا دفعنا أثماناً باهظة من كرامتنا المهانة، ومن شماتة الشامتين، وتشفي المتشفين، ولكننا مع جفاف الغربة كسبنا حريتنا وحلاوة الحياة(13).

إن اختيار الجواهري لطريقة حياته وأسلوبه في تعاطيه مع إبداعه الشعري، يتفق مع ما كان يردده كولريدج، ويطالب فيه، بأن على كل أديب أن يبتكر الذوق الذي يعجبه، وبالفعل كان الجواهري يتحرك في سياق ذوقه ومزاجه في اختيار موضوعاته، وفي انتقاء لغته الرصينة. وهو يرى بأن حريته تنبع من حرية وطنه.

يتحدث الجواهري بعد أن عاش الغربة بكل همومها وتفاصيل معاناتها، وظروف التعبير عنها شعراً، يتحدث عن الألق والأرق، ويقول: لماذا كنتم إلى جانب الساعات والأيام والليالي التي أعيشها في هذا العالم الجديد غير منفصل عن تأثيرات الغربة، وإنما ممن يتشددون في معنى  الاغتراب) وكثير ممن هم أمثالي ومن طبقتي ممن يعيشون غربتهم لا في أوطانهم فحسب، بل في ذواتهم في داخلهم في حضورهم، ومع هذا فقد قلت أثر الغربة، وأكاد أقرب من التصوير شبه الواقعي ..
 ويضيف : كنت حين أستلقي على فراشي فلا أقدر أن أنام حتى ولا ساعة بل حتى ولا دقيقة واحدة. ولا أغالي إذا قلت إن ذلك كان طيلة مدة إقامتي أي الشهور الستة في هذا الجناح الصغير والجميل المطل على الحدائق الفسيحة الخضراء، حيث كنت خلالها أغني (مرحباً أيها الأرق) و(يا نديمي) شيء عجيب!! كيف كان ذلك(14)؟

ربما أستطيع القول، وأنا على هذه الحالة في قصيدتي (أرح ركابك) التي أستبق فيها الزمن والتي أصل فيها إلى قولي: «من ساعةِ الصفوِ تأتي ساعةُ الكدرِ»(15).
ولكن رغم كل ما تغير به الزمن والحدث والمكان على الجواهري، فإنه ـ حسب اعترافه ـ لم يتغير فيه شيء واحد من أن يكون مع الناس، وفي كل زمن، وفي كل مكان، وفي كل ما تتعاقب به عليهم الأحداث.
وفي الأخير فإن الجواهري ـ كما قال عنه الشاعر الخالد بدر شاكر السياب ـ هو أستاذ هذا الجيل الطالع من الشعراء العراقيين، والحق إني والكثير من الشعراء الشباب الآخرين مدينون له بالكثير، وهو قمة من قمم الشعر العربي في كل عصوره، وأعظم شاعر ختم به النهج التقليدي للشعر العربي(16).


(6) تطور الشعر العربي الحديث في العراق، علي عباس علوان.
(7) الثقافة الجديدة (عدد خاص)، مريد البرغوثي.
(8) ديوان الجواهري، م1، ص112.
(9) المصدر نفسه، ص146.
(10) المصدر نفسه، ص198.
(11) الجواهري ـ جدل الشعر والحياة، د. عبد الحسين شعبان، ص44.
(12) الحركات الفكرية والأدبية في العالم العربي الحديث، أ. باعوض أحمد/ الأستاذ الغاري عبد اللطيف، ص206.
(13) الجواهري ـ جدل الشعر والحياة، د. عبد الحسين شعبان، ص156.
(14) مذكراتي، ج2، محمد مهدي الجواهري، ص292.
(15) المصدر نفسه، ص298.
(16) شعر بدر شاكر السياب (دراسة فنية وفكرية)، حسن توفيق، ص333.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *