الجواهري.. شاعر العرب الكبير
محمد إبراهيم محمد فايع
شاعر العراق الكبيرأبو فرات محمد مهدي الجواهري كان قدره أن يعيش غريبًا عانى النفي سنوات وقاسى الترحال وكان قدره أن يموت بعيدًا عن وطنه ليقبر في ثرى دمشق .
لقد عبر عن الغربة وكانت جزءًا من معاناته حتى مات، وبسبب نفيه خارج وطنه كانت محطات نفيه ومواني سفره ملهمة لأكثر شعره المحزن بسبب تلك الظروف التي أحاطت به وما أشد فرحته عندما كانت الظروف تسمح له بالعودة إلى الوطن الأم وقد عبر عام 1969م عندما عاد من مغتربه في تشيكوسلوفاكيا عن عظيم سروره بالرجوع فقال :
أرح ركابك من أين ومن عـثر
كفاك جبلان محمولاً على خطر
كفاك موحش درب رحت تقطعه
كأن مغـبره ليـلٌ بلا سـحر
إن الحديث صعب عن شاعر كبير مثل الجواهري في جوانب حياته الكثير من قصص الشجاعة ومساحات من الحزن والتأثر ووهج من الذكريات المختلطة بشيء من ملح الحياة في دروبها المضنية وقليل من حلو الأيام التي عاشها ولكنه عاشها للمبادئ وركب مراكب الصعب والخطر من أجل أن تبقى الكلمة الحرة مرفرفة ونال الكثير -في سبيل الحرية- من الأذى والألم والتشرد والسفر فكانت سنواته نفيًا ولكن سكن بداخله الإحساس الصادق رغم همومه المتعبة، وهذا حاله يعبر عنه فيقول :
إذا تخلصت من هم أطـحت به
شبت هموم على أنقاضه جددُ
كأن نفسك بُقيا أنفس شـقيت
و كل ذنب ذويها أنهم وجـدوا
و أنهم حلبوا الأيام أضـرعها
حتى إذا محضتهم درها زهدوا
مولده :
ولد الشاعر الكبير في مدينة النجف عام 1900م والنجف مركز ديني وأدبي وللشعر فيها أسواق تتمثل في مجالسها ومحافلها .. وتذكر الروايات أنه نشأ في أسرة اهتم أكثر رجالها بشؤون الأدب والثقافة والشعر.
وقد درس الجواهري على يد عدد من الشيوخ فأخذ عنهم النحو والصرف والبلاغة والفقه واستطاع أن يحفظ الكثير من الشعر القديم والحديث وقد عشق المتنبي وهام في أشعاره ورأى فيه معلمه الأول .
ويعود لقب الجواهري إلى كتاب (جواهر الكلام) من تأليف جده لأبيه الشيخ محمد حسن.
حياته الشعرية :
لقد نظم الشعر في سن مبكرة وكان متأثرًا بالأحداث الجارية في وطنه ولقد كانت رحلة الجواهري مع الشعر ودواوينه رحلة طويلة ومريرة وكان قد بدأها بإصداره لأول دواوينه "حلبة الأدب" وقد عارض فيه عددًا من الشعراء المعاصرين من أمثال أمير الشعراء أحمد شوقي وإيليا أبي ماضي ومن الشعراء القدامى لسان الدين ابن الخطيب وابن التعاويذي.
ثم صدر ديوانه الثاني تحت اسم "بين الشعور والعاطفة" سنة 1928م، ثم أعقبه في سنة 1935م بإصدار ديوان "الجواهري" في ثلاثة أجزاء ما بين عام 1935م و1939م وصدر بعد ذلك ديوان "قارعة الطريق" ثم سنة 1965 ديوان "بريد الغربة" وبعده بأربع سنوات صدر ديوان "بريد العودة" سنة 1969م، وفي سنة 1971م أصدرت له وزارة الإعلام ديوان "أيها الأرق" وفي العام نفسه أصدرت الوزارة ديوانه "خلجات".
وقد أعيد طبع ديوانه "الجواهري" أكثر من مرة وفي طبعات منقحة ومزيدة بمجلداته الأربعة والخمسة أحيانًا بحسب طبعات دار النشر وقد تزيد عن ذلك.
أما حياة الجواهري الشعرية فلقد جاء شعره ليفجر في هذه الحياة أفكاره الملتهبة بطموحات وجروح باحثًا عن حياة الحرية والكلمة الحرة من أجل ذلك دفع ثمنًا باهظاً كانت سنوات من التغرب عن وطنه ففي "براغ" بقي منفيًا فيها مدة ثلاثين عامًا والجواهري عندما ترك العراق لأول مرة بكاها وتشوق إلى لقائها وقال :
أقول و قد شاقتني الريح سحرة
ومن يذكر الأوطان والأهل يشتقِ
ألا هل تعـود الدار بعد تشـتتٍ
و يجـمع هذا الشـمل بعد تفرق
وهل ننتشي ريح العراق وهل لنا
سـبيل إلى مـاء الفرات و جلق
فو الله ما روح الجــنان بطيب
سـواكم و لا ماء الغوادي برِّيق
لقد كانت قصائده تنتقل من الغربة لتصل إلى الوطن لتنقل أحاسيس كل الغرباء عن أوطانهم وفي أوطانهم ولم تكن حياة شاعرنا هانئة ولم تعرف الاستقرار ولم تهنأ كثيرًا بمرابع الوطن لذا حياته كانت كما صورها هو بما يلي :
شب في مبيض سـالفتي
فـكأني بعد لـم أشـبِ
ومشت عرسي لتسعفني
و كما تهوى لتشمت بي
هتفت بئسـت مغامـرة
يابن خمسـين أأنت حبي
كان الجواهري دومًا على موعد السفر والترحال وعندما سُئل عن عدم استقراره وكثرة ترحاله أجاب قائلاً: أنا لا أسافر ولكن هي الريح تجري بي فأبحث معها عن فكرة أو أغنية أظهر معها روحي وأملأ صدري بهواء الحرية.
إن من تسنى له الاطلاع على دواوين شاعرنا سيرى :
أنه لم يفقد مع كل أحاسيس الألم والغربـة حبه للحياة أو عشـــقه للجمــال أو الصدق في إنسانيته بل كانت مشاعره أحيانًا تفيض أملاً وتفاؤلاً وجمالاً فحواره مع براغ جعله يترك انطباعاته الحلوة وذكرياته الجميلة فيقول :
و يا أمـثولة اللطـف
مشـت دنيا على أثرك
زكـا في تربك العـطر
ودب السحر في حجرك
فلو صيغت دنا أخـرى
لما كانت سوى كسرك
وقصيدته"يا أم عوف" تبين إنسانيته حينما وجد من راعية الغنم كرمًا وحسن ضيافة منها :
يا أم عوف وقد طال العناء بنا
آه على حــقبة كانت تعانينا
آه على أيمن من ريع صبوتنا
كنا نجــول به غرًا ميامينا
وقد رثى حافظ إبراهيم يوم أن مات فقال :
يا بن الكنانة ماذا أنت مشتمل
عليه مما سطا موت فغطاها
وعزى في أمير الشعراء أحمد شوقي :
طوى الموت رب القوافي الغرر
وأصبح شـوقي رهين الحفر
وألقي ذاك التـراث العظـيم
لثقل التـراب و ضـغط الحجر
و جئنا نعزي به الحاضـرين
كأن لم يكن أمس فيمن حضر
لقد عاش الجواهري شاعرًا كبيرًا لم تنل منه السنوات ولم تحنِ قامته المنافي ولم يصغر أمام الحوادث والنكبات ولم تستطع القوى الظالمة إذلاله عندما جردته من هويته العراقية على يد صدام حسين عندما شارك أشقاءه المثقفين السعوديين أعراس الجنادرية المهرجان السعودي السنوي عام 1994م، مع الشاعر عبدالوهاب البياتي.الشاعر الجواهري قامة من قامات الشعر العربي في عصرنا الحديث ذو الإحساس الصادق والمشاعر الفياضة التي تتولد للقارئ من بين قوافيه. وما أجمل إحساسه الصادق وهو يرثي زوجته أم فرات.. بعد أن جاءه نبأ وفاتها فقال :
في ذمة الله ما ألقى و ما أجـد
أهـذه صـخرة أم هذه كـبد
قد يقتل الحزن من أحبابه بعدوا
عنه فكيف بمن أحـبابه فقدوا
بكيت حتى بكى من ليس يعرفني
ونحت حتى حكاني طائر غـرد
وأبو فرات كان يستنهض الهمم عندما تنشط لمكافحة الاستعمار وفي مصر عندما كانت المقاومة الشعبية تكافح الاستعمار نظم قصيدة قال فيها :
خلي الدم الغالي يسـيل
إن المسـيل هو القتيل
مدي بهـامك فالجـهاد
لديه من هـام تـلـول
من هاهنـا فجـر يطل
ومن هنـا ليـل يـزول
قل للشباب بمصر والدنيا
لمـن يصــغي تقـول
هذا أوان الجولة الكبرى
تبــارك مـن يجـول
إن لم تصــولوا للزياد
عن الحياض فمن يصول
رحيل الجواهري :
لقد رحل الجواهري آخر الشعراء الكبار وخسر الشعر واحدًا من أعمدته القوية بعد أن ظل يحافظ على شكل القصيدة العمودية أمام هجمة القصيدة الجديدة وليس من السهل الآن البحث عن جواهري آخر.
رحم الله الجواهري الذي ضاقت عليه العراق بما رحبت واتسع لها صدره المليء بالأحزان وهو يقول :
سـلام على هضـبات العراق
وشـطيه والجـرف والمنحنى
على النخل ذي السعفات الطوال
علـى سـيد الشـجر المقتنى
على الرطـب الغض إذ يجتلي
كوجـه العـروس وإذ يجتنى
عاش الجواهري حياة الاغتراب ولكنه كان محل حفاوة وتكريم العديد من الدول والبلدان فقد نال جائزة الشيخ سلطان العويس سنة 1993م، وفاز بجائزة "اللوتس" الخاصة بالأدباء الأفروآسيويين وكرمته دار الهلال بمناسبة احتفالها بعيدها المئوي سنة 1992م وكرم من جهات عدة أخرى .
وعندما فارق الحياة كتب الشاعر العراقي يحيى السماوي قصيدة يرثيه " قال فيها :
أغريب؟ أم الزمــان الغريب
كيف تشقى وأنت للطيب طيب
إلى أن قال :
قد كفانا من العـراق افتخارًا
أن تغنت بما نطقت الشـعوب
كما تبـاهت بمقلتيك المرايا
و اشرأبت إلى خطاك الدروب
لقد رحل الجواهري بعد أن قدم لنا سيرته شعرًا عبر من خلالها عن معاناته مع الغربة وعن حالة المجتمع العراقي، ورغم هذه المعاناة في شعره إلاّ أنه تميز بالرقة والواقعية ورسم الحنين للوطن الأم، كان صادقًا في شعره ومشاعره رائعًا في إلقائه للشعر تميز بحضوره الشخصي والأدبي وربما أن الحاضرين في مهرجان الجنادرية عام 1994م استمتعوا بأشعاره واستطاع اقتحام وجدانهم وانتزاع إعجابهم، لقد زود المكتبة العربية بإبداعاته الشعرية مما تركه من دواوينه الشعرية التي أضافت شيئًا من الروعة الأدبية ليتلذذ بها محبو الأدب ومتذوقو الشعر العربي الأصيل.
محمد إبراهيم محمد فايع
المصدر : المجلة العربية العدد 364 السنة32 جمادالأولى1428هـ يونيه2007م