عتاب مع النفس .

* نشرت في جريدة "العراق" العدد 3384 في 6 كانون الثاني 1930 . 
* نشرت في ط35 بعنوان : "تبعات الحياة أو عتاب مع النفس"

عتَبْتُ وماليَ مِن مَعتبِ
على زَمَنٍ حُوَّلٍ قُلَّبِ 

أُنلصِقُ بالدهر ما نجتوي
ونختصُّ نحن بما نجتبي ؟!(1)

كأنَّ الذي جاء بالمَخْبثاتِ
غيرُ الذي جاء بالطَّيب! 

وما الدهرُ إلا أخو حَيدةٍ
مُطلٌ على شرَفٍ يرتبي (2)

يُسجّلُ معركةَ الكائناتِ
مثلِ المُسجّل في مَكتب 

فما للزمانِ وكفّي إذا
قَبضتُ على حُمةَ العقرب؟! (3)

وما للَّيالي ومغرورةٍ
تُجَشِّمُني خَطرَ المركب؟ 

بِنابيَ، مِن قبلِ نابِ الزمان
ومن قبل مِخلبه مِخلبي 

تَفَرَّى أديميَ ، لم أحَترِس
عليه احتفاظاً ولم أحدَب! 

بناءٌ أُقيمَ بجَهد الجُهود
وَسهرةِ أُمٍّ ورُعْيا أب 

وأضْفَتْ عليه الدروسُ الثِقالُ
لوناً من الأدب المُعْجِب 

عَدوتُ عليه فهدَّمتُه
كأن ليس لي فيه من مطلب! 

 * * *

يداي َ أعانت يدَ الحادثات
فَرُنِّقَ طوع يدي مشربي 

أجِد وأعلمُ عِلمَ اليقين
بأني من الدهر في ملعب! 

وأنّ الحياةَ حَصيدُ الممات
وان الشروقَ أخو المغرب! 

وإني على قدْر ما كان
بالفُجاءاتِ مِن قَسوةٍ كان بي 

بَعثْنَ البَواعثَ يَصْطَدنَني
وأبصرتُ مَنجى فلم أهرب! 

وثارتْ مُخّيلتي تَدَّعي
بأنَّ التَنزُّلَ مَرعى وبي 

وأن الخيانةَ ما لا يجوزُ
وأنَّ التقلّبَ للثعلب 

وأنْ ليس في الشرِّ من مغنم
يُعادِلُ ما فيه مِن مَثْلَب 

ولما أُخِذْتُ بها وانثنيتْ
نزولاً على حُكمها المُرهِب 

ووَطَّنْتُ نفسي ، كما تشتهي
على مَطْعمٍ خَشِنٍ أجْشَب 

مشى للِمثالبِ ذو فِطنةٍ
بقوَّةِ ذي لِبد أغلب  (4)

جَسورٍ رأي أنّ مَن يَقتحمْ
يُحكَّمْ، ومن يَنكمشْ يُنْهَب 

وأفرغَها من صُنوفِ الخِداعِ
والغشَّ في قالبٍ مُذْهَب 

فرفَّتْ عليه رَفيفَ الأقاح
في مَنبِت نَضرٍ مُعشِب 

تُسمَّى خَلائقَ محمودةً
ويُدعَى أبا الخُلُقِ الأطيب! 

وراحَ سليماً من الموبقات
ورُحتُ كذي عاهةٍ أجرب! 

ولم أدرهِها عِظَةً مُرَّةً
بأني متى أحَترِسْ أُغلَب 

ولكنْ زَعمتُ بأن الزمانَ
دانٍ يُسفُّ مع الهيدَب(5)


(1) نجتوي : نكره ، ونجتبي : نحب ونختار .
(2) الشرف : الموضع العالي المشرف ، ويرتبي : يطل ويقتعد ربوة الجبل .
(3) حمة العقرب : مغرز السم في ذنابها .
(4) يراد بذي اللبد الأغلب الأسد ، واللبد “جمع لبدة” الشعر المتجمع بين كتفي الأسد . والأغلب الغليظ الرقبة ، وهي من أوصافه .
(5) الهيدب : السحاب المتدلي

المصدر : ديوان الجواهري-الجزء الثاني-وزارة الاعلام العراقية/مديرية الثقافة العامة-مطبعة الأديب البغدادية 1973م