دمشق جبهة المجد …
* نظمت عام 1978.
* أنشدها الشاعر في الحفل الضخم الذي أقامته وزارة الثقافة والإرشاد القومي السورية في قاعة "سينما الحمراء" . وكان الشاعر قد حل ضيفاً على الوزارة المذكورة بدعوة من الدكتورة "نجاح العطار" وزيرة الثقافة .
شَمَمْتُ تُرْبَكِ لا زُلْفى ولا مَلَقا
وسِرْتُ قَصْدَكِ لا خِبّاً، ولا مَذِقا (1)
وما وَجَدْتُ إلى لُقْياكِ مُنْعَطَفاً
إلاّ إليكِ،ولا أَلْفَيْتُ مُفْتَرَقا
كنتِ الطَّريقَ إلى هاوٍ تُنازِعُهُ
نفسٌ تَسُدُّ عليهِ دونَها الطُّرُقا
وكان قلبي إلى رُؤياكِ باصِرَتي
حتى اتَّهَمْتُ عليكِ العينَ والحَدَقا
شَمَمْتُ تُرْبَكِ أَسْتافُ الصِّبا مَرِحاً
والشَّمْلُ مُؤْتَلِفاً، والعِقْدُ مُؤْتَلِقا (2)
وسِرْتُ قَصْدَكِ لا كالمُشْتَهي بَلَداً
لكنْ كَمَنْ يَتَشَهّى وَجْهَ مَن عَشِقا
قالوا "دِمَشْقُ" و"بَغْدادٌ" فقلتُ هما
فَجْرٌ على الغَدِ مِن أَمْسَيْهِما انْبَثَقا
ما تَعْجَبونَ؟ أَمِنْ مَهْدَيْنِ قد جُمِعا
أَم تَوْأَمَيْنِ على عَهْدَيْهِما اتَّفَقا
أَم صامِدَيْنِ يَرُبَّانِ المَصيرَ مَعاً
حُبَّاً ويَقْتَسِمانِ الأَمْنَ والفَرَقا (3)
يُهَدْهِدانِ لِساناً واحِداً ودَماً
صِنْواً، ومُعْتَقِداً حُرَّا،ً ومُنْطَلَقا (4)
أَقْسَمْتُ بالاُمَّةِ اسْتَوْصى بها قَدَرٌ
خَيراً، ولاءَمَ منها الخَلْقَ والخُلُقا
مَن قالَ أنْ ليسَ مِن معْنىً للفْظَتِها
بلا دِمَشْقَ وبَغدادٍ فقد صَدَقا
فلا رَعى اللهُ يوماً دسَّ بينهما
وَقيعَةً، ورَعى يَوْمَيْهِما ووَقى
* * *
يا جِلَّقَ الشَّامِ والأَعْوامُ تَجْمَعُ لي
سَبْعاً وسَبْعينَ ما الْتاما ولا افْتَرَقا (5)
ما كانَ لي منهما يومانِ عِشْتُهُما
إلاّ وبالسُّؤْرِ مِن كَأْسَيْهِما شَرِقا (6)
يُعاوِدانِ نِفاراً كلّما اصْطَحَبا
ويَنْسَيانِ هوىً كانا قدِ اغْتَبَقا (7)
ورُحْتُ أَطْفو على مَوْجَيْهِما قَلِقاً
أَكادُ أَحْسُدُ مَرْءًا فيهما غَرِقا
يا لَلشَّبابِ يَغارُ الحِلْمُ مِن شِرَةٍ
بهِ، وتَحْسُدُ فيهِ الحِنْكَةُ النَّزَقا (8)
ولَلبَساطَةِ ما أَغْلى كَنائِزَها
"قارونُ" يُرْخِصُ فيها التِّبْرَ والوَرِقا (9)
تَلُمّ كأْسي ومَن أهْوى، وخاطِرَتي
وما تَجيشُ، وبَيْتَ الشِّعْرِ والوَرَقا
أَيَّامَ نَعْكِفُ بالحُسْنى على سَمَرٍ
نُساقِطُ اللَّغوَ فيه كَيْفما اتَّفَقا
إذْ مسْكَةُ الرَّبَواتِ الخُضْرِ توسِعُنا
بما تَفَتَّقَ مِن أنْسامِها عَبَقا (10)
إذْ تُسْقِطُ "الهامَةُ" الإصْباحُ يُرْقِصُنا
و"قاسيُونُ" علينا يَنْشُرُ الشَّفَقا
نَرْعى الأَصيلَ لِداجي اللّيلِ يُسْلِمُنا
ومِن كُوىً خَفِراتٍ نَرقُبُ الغَسَقا (11)
ومِن كُوىً خَفِراتٍ نَسْتَجِدُّ رُؤىً
نَشْوانَةً عَن رُؤىً مَمْلولَةٍ نَسَقا
آهٍ على الحُلْوِ في مرٍّ نَغَصُّ بهِ
تَقَطَّرَا عَسَلاً في السُّمِّ واصْطَفَقا (12)
|
(1) الخب : المخادع . المذق : من لا يخلص الود.
(2) أستاف : أشم ، والسوف : الشم . مؤتلق : متلأليء .
(3) يربان : رب الصبي رباه حتى أدرك . الفَرَق : الخوف .
(4) يهدهدان : هدهد الصبي أي حركه لينام . والصنو : الأخ الشقيق .
(5) التاما : التأم الشمل أي اجتمع .
(6) السؤر : بقية الماء يتركها الشارب في الإناء بعد ارتوائه . الشرق : شرق بالشراب ، غص به .
(7) اصطبح : شرب الصبوح وهو الشرب عند الصباح ، اغتبق : شرب الغبوق وهو الشراب يتناول مساء .
(8) الحلم : العقل والأناة والروية . الشرة : نشاط الشباب . الحنكة : فهم الشيء وإحكامه . النزق : الطيش والخفة والغضب .
(9) كنائزها : مفردها كنز . الورِق بكسر الراء : الفضة والدراهم المضروبة منها.
(10) المسكة : القطعة من الطيب والمسك . العبق : رائحة الطيب والمسك الدائمة.
(11) الليل الداجي : المظلم . الكوى : مفردها كوة وهي الخرق في الحائط أو النافذة . الخفرات : المستحيات . الخفر : الحياء . الغسق : ظلمة أول الليل .
(12) اصفقا : امتزجا .
المصدر : ديوان الجواهري – المجلد الخامس – بيسان للنشر والتوزيع والإعلام 2000م