دمشق جبهة المجد .

يا جِلَّقَ الشَّامِ إنّا خِلْقَةٌ عَجَبٌ
لم يَدْرِ ما سِرُّها إلاّ الذي خَلَقا

إنّا لَنَخْنُقُ في الأَضْلاعِ غُرْبَتَنا
وإنْ تَنَزَّتْ على أَحْداقِنا حُرَقا (13)

مُعَذَّبونَ وجَنَّاتُ النَّعيمِ بنا
وعاطِشونَ ونَمْري الجَوْنَةَ الغَدَقا (14)

وزَاحِفونَ بِأَجْسامٍ نَوابِضُها
تَسْتَامُ ذِرْوَةَ "عِلِّيِّنَ" مُرْتَفَقا (15)

نُغْني الحَياةَ ونَسْتَغْني كأنَّ لنا
رَأْدَ الضُّحى غَلَّةً والصُّبْحَ والفَلَقا (16)

يا جِلَّقَ الشَّامِ كم مِن مَطْمَحٍ خَلَسٍ
للمَرءِ في غَفْلَةٍ مِن دَهْرِهِ سُرِقا (17)

وآخَرٍ سُلَّ مِن أنْيابِ ذِي لَبَدٍ
وآخَرٍ تَحْتَ أَقْدامٍ لهُ سُحِقا (18)

دامٍ صِراعُ أخي شَجوٍ وما خَلَقا
مِنَ الهُمومِ تُعَنِّيهِ، وما اخْتَلقَا

يَسْعى إلى مَطْمَحٍ حانَتْ وِلادَتُهُ
في حينِ يَحْمِلُ شِلْواً مَطْمَحاً شُنِقا (19)

حَرَّانَ حَيْرانَ أَقْوى في مُصامَدَةٍ
على السُّكوتِ، وخَيْرٌ مِنهُ إنْ نَطَقا

كَذاكَ كُلُّ الذينَ اسْتُودِعوا مُثُلاً
كَذاكَ كلُّ الذينَ اسْتُرْهِنوا غَلَقا (20)

كَذاكَ كانَ وما يَنْفَكُّ ذو كَلَفٍ
بِمَنْ تُعبِّدَ في الدُّنْيا أو انْعَتَقا (21)

* * *

دِمَشْقُ عِشْتُكِ رَيْعاناً، وخافِقَةً
ولِمَّةً، والعُيونَ السُّودَ، والأَرَقا (22)

وها أَنا، ويَدي جِلْدٌ، وسالِفَتي
ثَلْجٌ، ووَجْهيَ عَظْمٌ كادَ أو عُرِقا (23)

وأنتِ لم تَبْرَحي في النَّفْسِ عالِقَةً
دَمي ولَحْمِيَ والأنْفاسَ، والرَّمَقا (24)

تُمَوِّجينَ ظِلالَ الذِّكْرَياتِ هَوىً
وتُسْعِدينَ الأَسى، والهَمَّ والقَلََقا

فَخْراً دِمَشْقُ تَقاسَمْنا مُراهَقَةً
واليومَ نَقْتَسِمُ الآلامَ والرَّهَقا (25)

دِمَشْقُ صَبراً على البَلْوى فَكَمْ صُهِرَتْ
سَبائِكُ الذّهَبِ الغالي فما احْتَرَقا

على المَدى والعُروقُ الطُّهْرُ يَرْفُدُها
نَسْغُ الحياةِ بَديلاً عن دَمٍ هُرِقا

وعندَ أَعْوادِكِ الخَضْراءِ بَهْجَتُها
كالسِّنْدِيانَةِ مهما اسَّاقَطَتْ ورَقا

* * *

و"غابُ خَفَّانَ" زَئَّارٌ بهِ "أسَدٌ"
غَضْبانَ يَدْفَعُ عن أَشْبالِهِ حَنِقا (26)

يا "حافِظَ" العَهْدِ، يا طَلاّعَ أَلْوِيَةٍ
تَناهَبَتْ حَلَباتِ العِزِّ مُسْتَبَقا

يا رابِطَ الجَأَشِ، يا ثَبْتاً بِمُسْتَعِرٍ
تَآخَيا في شَبوبٍ مِنه، والتَصَقا (27)

تَزَلْزَلَتْ تَحْتَهُ أرضٌ فما صُعِقا
وازَّخْرَفَتْ حولَهُ دُنيا فما انْزَلَقا

أَلْقى بِزَقُّومِها المُوبي لِمُرْتَخِضٍ
وعافَ للمُتَهاوي وِرْدَها الطَّرَقا (28)


(13) تنزت : غلت من شدة الحرارتها .
(14) نمري : مرى ضرع الناقة مسح عليها ليدر اللبن . الجونة : الدلو العظيم والخابية ، ومن معانيها الشمس . الغدق : الماء الكثير .
(15) تستام : تسأل سومها وشراءها . المرتفق : المتكأ ، ارتفق : اتكأ على مرفقه .
(16) رأد الضحى : ارتفاعه . الفلق : الصبح أو ضوء الفجر.
(17) خلس : مختلس مسلوب .
(18) ذو لبد : الأسد .
(19) الشلو : الجسد الميت وجمعه أشلاء.
(20) غلقا : الرهن الذي لا بد من استحقاقه .
(21) الكلف : الولع ، وذو كلف المولع بالشيء.
(22) اللمة (بضم اللام) : الأصحاب ومن يستأنس بهم الإنسان.
(23) عرق العظم : أكل ما عليه من اللحم .
(24) الرمق : بقية الحياة.
(25) الرهق : حمل الإنسان على ما لا يطاق.
(26) خفان : موضع كثير الأسود.
(27) شبوب : النار المشبوبة الكثيرة الإشتعال.
(28) الزقوم : طعام أهل النار . الموبي : الوخيم . الطرق : بفتح الطاء والراء : مستنقع المياه في

الأرض .