عذراً لما جدّ من موضوعات, ولأعد بك إلى ما وعدت به في بداية الباب, فقد أشرت إلى أني سأتحدث عن الشاعر العملاق الجواهري، وصديقى عزت عفيفى قطب، وأرى أن الوقت حان لقضاء بعض الوقت مع الجواهري، الشاعر الكبير الذى ملك كل مشاعرى.
فالرجل عاش اغترابا وغربة امتدت لأكثر من ثلاثين عاما، على رضا منه أو على كره بين واضح، اختار ذلك أم فرضت عليه الغربة، ولكنه على كل حال ظل رهين أشواق العودة إلى الوطن ولو على جناحي عقاب:
ما أرخص الموت عندى إذ يمد فمى
بما تحوك بنـات الشعر من كفنى
وما أرق الليالى وهي تســـلمنى
يوم القراع لظهر المركب الخشنِ
حســبتنى وعقاب الجو يصعد بى
إلى السـموات محمولا إلى وطنى
والرجل صهرته الأحداث والحوادث والآلام حتى لم يعد فى صدره ولا قلبه مكان جديد لألم جديد، فهو بجانب ما يعايشه من هم أصابه الكبر وأوهى من عزمه وقدرته على تحمل المزيد من المصاعب والمصائب، ويقرر أن لا مفر من أن يظل باقيا ضاغطا على الجمرة المحرقة دون أن يتأوه ودون أن ينبس ببنت شفة، بل وما تفعل النار بمن جسمه كله ظل مشتعلا بنار، الصمت أفضل ولا شك فى ذلك وأليق بالرجال فى مثل هذه الحالات:
لم يبق عندي ما يبتزه الألـــم
حسبى من الموحـشات الهم والهرم
لم يبق عندى كفاء الحادثات أسى
ولا كفاء جــــراحات تضـج دم
وحين تطغى على الحران جمرته
فالصـمت أفضل ما يطوى عليه فم
ولكنى أبكى كثيرا وأحزن كثيرا وأنا أستمع إليه فى لاميته العظيمة:
لقد أسـرى بي الأجـلُ
وطول مسـيرة مللُ
وطول مسيرة من دون
غايِ مطـمح خجل
على أني بأن يطـوى
غدٌ طول السرى وجل
وتلك هي آية الفكرة وذلك لبها، ولا أعتقد أن أحدا لا يشغله ذلك الأمر، مهما كان، إلا أن يكون مبشرا بالجنة أو يعلم أنه غفر له ما تقدم وما تأخر من ذنبه، فنحن نقدم بالموت على مرحلة جديدة، تدخل فى عالم الغيب، لا نضمنها ولا نضمن حسن الختام ولا نأمن مكر الله، وإن كنا نسعى جاهدين لإرضاء الله وكسب الحسنات، وشغلت قضية الموت الكثيرين من المفكرين والشعراء والصالحين والصغار والكبار على السواء، وعندما يصل بالمرء العمر أرذله ويحس أنه أضحى قريبا من الموت، يصبح عاطفيا إلى أبعد درجة،ويبكيه الكثير من الأمور، حتى الجبابرة أو الذين عاشوا حياتهم جبابرة، تجدهم وهم على مشارف الموت عاطفيين إلى
أبعد الحدود. ويمضى الشاعر الكبير:
أقـول وربما قـول
يـدل بـه ويبتهل
ألا هل ترجع الأحلام
ما كحلت به المقل
ويبكى الرجل لطلبه المستحيل فأبكى معه بحرقة وألم، تلك آثار الأيام ومرور السنين بسرعة عجيبة، عاش سيدنا نوح تسعمائة وخمسين عاما بعد أن أتته الرسالة وسئل عند الموت عما وجد بالحياة، فأجاب: هي كوخ صغير له بابان، تدخل من هذا وتخرج بالباب المقابل، ويذكرنى هذا البيت بما ورد فى القرآن الكريم بأن منا من يرد إلى أرذل العمر حتى لا يعلم من بعد علم شيئا، وأيضا من يعمر منا يُنكس فى الخلق، وصدق الله العظيم وصدق قرآنه الكريم .
أعود إلى لامية الجواهري العملاق, والذاكرة لا تسعفني كثيراً, فقد تركت القصيدة بالسودان ضمن مقتنياتي النادرة حسب نظرتي الشخصية طبعاً, ولكني ما زلت أتذكر منها:
وهل ينجاب عن عيني
ليـل مـطبــق أزل
كأن نجومه الأحـجار
في الشـطرنج تنتقـل
يساقط بعضها بعضا
فـمـا تـنـفك تقتتل
مقيم حيث يصـطرع
المنى والسعي والفشل
وحيث يعارك البلوى
فـتـلـويه ويـعتدل
لعمري ما سمعت أجود من هذا الشعر الذاتي في زماننا هذا, زمان التبعية النفسية والأدبية للغرب البغيض والتأثر بمن هم أقل منّا فكراً وإبداعاً وخلقاً ثقافياً. ولعلي إن أردت أن أتحدث عن إبداعات الشعراء العرب وسبقهم لرفيع المعاني وجميلها, لطال بنا المقام والمطاف, ولكن يبدو أني سأضطر إلى ذلك يوماً ما.
وإذا ما تعرضنا لقصيدة الجواهري الخالد الباقي بشعره الرائع, التي يخاطب فيها دجلة الخير, لسمعنا عجباً:
أتضمنين مقيلا لي سـواسية
بين الحشائش أو بين الرياحين
لعل يوما عصوفا جارفا عرما
آت فترضيك عقباه وترضـيني
وصحبة الجواهري لا تمل, ولكني أسجل خواطر اغتراب سريعة ولا أقدم دراسة متأنية متخصصة, فقد واجه الموت رغم خوف منه ووجل, وترك ثروة أدبية هائلة. وما جاء اليوم العصوف الجارف العرم الذي تحيا به دجلة الخير ويحيا به هو, إلا من خلال ما كتب وترك من قصائد تستعصي على غيره من الفحول, فهو على قدرة وملكة المتنبي, وتصحيح لمسار المتنبي:
ســـلام من أخي
دنف تناهت عنده العلل
وفيما قال من حسن
وسيْئ يكثرالجــدل
سـلام أيها الثاوون
إني مـزمـع عجـل
سـلام أيها الندماء
إني شـــارب ثمل
سـلام أيها الخالون
إن هـواكمُ شــغل
سلام أيها الأحـباب
إن مـحـبـة أمـل
ســـلام كله قبل
كأن صـميمها شعل
حسن إبراهيم الأفندي
المصدر : الأزمنة العربية http://www.alazmina.info