أنتم فكري.

يا شباب الدُّنى وربَّ شُجونٍ
شُرَّدٍ هنّ عِبرةٌ لمفيد

لا تمَلُّوا وإن أطلتُ حديثاً
أنا منه -أسيانَ- بيتُ القصيد

تشخص التضحياتُ لحماً وروحاً
حين تُروى لغُيَّبٍ عن شُهود

ولكَم قُصَّ من حياةِ جدودٍ
قَصَصٌ كان ثروةً لحفيد

أنا من تلكم الضحايا رمت بي
فكرةٌ حرةٌ وراءَ الحدود

لم أُطِق كتْمَها وأعلمُ كلَّ
العلم أنّي بها أحُزُّ وريدي

كنتُ فيها أُلقى بجلدي للنَمرِ
وحَولي ممزَّقاتُ الجلود

أستلذُّ الصِّراعَ يُبقي خُدوشاً
في عَتِّي ومعجب ومُريد (9)

ولأنقى من نجمةٍ في ظلام
لطمةٌ في مصعَّرات الخدود (10)

ولِلُقيا الحُتوفِ وجهاً لوجهٍ
لذةٌ تُبتغى بجُهدٍ جهيد

يا لَجُبنِ الدعيِّ يركب متن
الهولِِ علماً بأنهُ غيرُ مودِي (11)

يا شباب الدُنا وأنت قضاتي
في شَكاةٍ تطغى، وأنتم شُهودي

أنا في عِزَّةٍ هنا غيرَ أني
في فؤادي ينِزُّ جرحُ الشريد (12)

لي عِتاب على بلادي شديدٌ
وعلى الأقربينَ جِدُّ شديد

أفَصقرٌ طريدةٌ لغُرابٍ
ونبيغٌ ضحيةٌ لبليد (13)

يا لبغداد حينَ ينتصِفُ التأريخُ
من كلِّ ناكرٍ وجَحود

حين يُروى حديثُها وحديثي
وتُوازى نُحوسُها بسعود

يا لَهَا إذ يُقال كان على العٌقمِ
لديها ما لم يكن لوَلود

وُهِبته محسودةً، وذوو
الحِرْمانِ أدرى بنعمة المحسود

جَحَدْتهُ فعاش أيَّ ضنيكٍ
ورمته فعاش أيَّ طريد (14)

يستقي من دمِ الفؤاد جريحاً
ويغذِّي جِراحه بالصديد (15)

بَخِلَتْ أن تُفَيِّءَ الظلَّ منه
وحنت فوق كلِّ وغدٍ وغيد (16)

* * *

يالرهط الآدابِ فيها إذا ما انجاب
عنهم حسابُ يومٍ عتيد (17)

أخلدوا سُنَّة الذليل إلى العيش
وناموا على وساد الوعيد (18)

واكتفوا عن " رسالة " بوخيزٍ
اخرسٍ في ضميرهم موءود (19)

واستطابوا صمتَ القُبور وهان
الثُكْلُ فيهم بالصادح الغِّريد (20)

وكأنْ لم يرفعْ منارَ القصيدِ
وكأن لم يكن محجَّ الوفود

ملأواالأرضَ حين عادى ذوي الحكم،
وذابوا من حوله حين عُودي

بالإطراق مُستَجم "النواسيّ"
على ذلِّ شارعٍ للرشيد (21)

وتخلَّوا عنه فهاهُمْ حصيدٌ
للرزايا تترى.. وأيُّ حصيد

أجِلِ الطرفَ فيهُمُ تعترفْهم
ملعبَ الريح في شتيتٍ بديد (22)

نَثْرةً أصبحوا وكانوا
كحبَّاتِ الثُريَّا تُلَمُّ في عُنقود

وحصيداً مشى بهم مِنجلُ الدهرِ
جزاءً عن شملي المحصود (23)

وخضيداً طاحت مورَّقةُ
الأعوادِ منهم بعُودي المخضود

* * *

يالَسلطانِ سادةِ الكلِمِ الجبّار
مسْتبدلاً بخوف المَسود

ولَخيرٌ من ميِّتاتِ حروفٍ
ما يحتُ الحفَّارُ من جُلمود (24)

ولأغلى من صامتينَ على الظلمِ
وهم قوةٌ، سعاةُ بريد

والجهولُ الشُجاعُ في زحمة
الأحداثِ أعلى من عارفٍ رِعديد (25)

* * *

يا لَيالي الخُطوبِ سوداءَ عُودي
لتَريْ أيَّ كوكبٍ مفقود

لتَريْ كيف قِيلَ صِدقاً وحقاً
ربَّ ساعٍ مشى بألفِ قعيد

لتري أيّ واحدٍ في عديدِ
وعديداً وليس بالمعدود

لتري أيّ مِسْعَرٍ لحروبٍ
ضيّعوه يوم اصطكاكِ الحُشود

لتري أيّ غرَّةٍ قد تخلت
عن جبينٍ، وتَلْعةٍ عن جيد (26)

لتري كيف ذُوِّبتْ في جليدِ
جذوةٌ من شُواظِ قلبٍ وَقيد (27)

* * *

يا ليالي الخُطوبِ عُودي ويا ويح
صريخٍ لكُربةٍ مُستعيد

يا ليالي الخُطوبِ عُودي وكم
خضخض جيلاً مهدُ الليالي السود

يا ليالي الخُطوبِ عُودي وقد
شاءت رؤوسٌ تساقطت أن تعودي

عصر الذلُّ أيّ عاصٍ شموخٍ
ولو السَّوطُ أيَّ صلدٍ عنيد

وَمَشتْ نعمةٌ بشوكاءَ تُدمي
فاستطابت نعومةَ الأملود (28)

يا ليالي الخُطوبِ سواءَ عُودي
وأجرّي ما شئتِ خطباً وزيدي (29)

جنّبي الخائرينَ غارَ الصُمودِ
وضعيهِ على جباهِ الصيد (30)

وأطيحي بكلِّ ما لا يُطيقُ
المكثَ في زحمةِ البلاءِ الشديد

وأزيحي عن أنفسِ عَفِناتٍ
بالدعاوى مضمخاتِ البُرود (31)

* * *

يا شبابَ الدنا: وهذا فؤادٌ
في قصيدٍ، وآهةٌ في نشيد

أنا زرعُ البلوى وهذا حَصيدي
وَنتاجُ الأسى وهذا وليدي

يا شباب الدنا وها أنا ما في
أيكتي، مغمزٌ ولا جفَّ عودي (32)

غيرَ أنّي ولم أكن ببليدِ
خِفتُ قولَ البليدِ في تفنيدي (33)

خفتُ من شامتٍ حقودٍ لئيمٍ
وكما تعلمونَ : لؤمُ الحقود

* * *

يا شباب الدُنا وربَّ مُعادٍ
كان بُغيا المعيد والمستعيد (34)

سأغني لكم على وتر القلب
وألقي لكم بحبل الوريد (35)

سأساقيكُمُ كؤوس القوافي
من شروبٍ منادمٍ عربيد (36)

وستأتونني بعزمٍ جديدِ
وسآتيكُمُ بلحنٍ جديد

أنتم فكرتي ومنكم نشيدي

وبكم يستقيم لحني وعودي


9) العتي: الظالم المتجبر، كأنه يريد به الكاره، المبغض.
(10) المصعرات: المتكبرات.
(11) مودي: مهلك.
(12) أنا في عزة هنا: يشير إلى إقامته عزيزاً في براغ.
(13) نبيغ: يريد نابغة، وقد استعملها الشاعر في أماكن متعددة.
(14) ضنيك: مضايق.
(15) الصديد: القيح.
(16) الوغيد: يريد الحقير.
(17) يالرهط الآداب: يقصد اتحاد الأدباء العراقيين، العتيد: يريد الشديد.
(18) الوعيد: يريد الوعد.
(19) الوخيز: يقصد الوخز. اكتفوا عن رسالة… يريد أنهم لم يؤدوا الرسالة أي الواجب إزاءه. الموؤد: المدفون.
(20) الصادح الغريد: أي الشاعر نفسه.
(21) مستجم النواسي: شارع أبي نواس.
(22) تعترفهم: عرفتهم أي رأيتهم ووجدتهم.
(23) أي أن الأذى وقع على أدباء بغداد لأنهم قعدوا عن نصرة الحق.
(24) يحت: ينحت ويحك.
(25) رعديد: جبان.
(26) الغرة: البياض والنصاعة، وهي من الصفات الحسنة للجبين، التلعة: الطول، وهي من صفات الجمال في العنق.
(27) وقيد: موقد أي مشتعل.
(28) شوكاء: كثيرة الشوك، وهي صفة لموصوف محذوف يمكن تقديره بحياة، الأملود: الغصن الطري.
(29) أجر: طعن.
(30) الغار: الإكليل، الصيد: الكرام.
(31) مضمخات: معطرات، البرود: الثياب.
(32) أيكتي: شجرتي.
(33) تفنيد: تكذيب.
(34) يريد ببغيا: بغية.
(35) هذا البيت والبيتان بعده مما أثبته الشاعر من القصيدة في جريدة ” صوت الأحرار ” وأهمله في الديوان.
(36) شروب: كثير الشرب.