دجلة الخير.

يا دجلةَ الخير: والدنيا مفارقةٌ
وأيُّ شرٍّ بخيرٍ غيرُ مقرونِ

وأيُّ خيْرٍ بلا شرٍّ يُلقّحهُ
طهْرُ الملائكِ منْ رجْسِ الشياطينِ

يا دجلةَ الخير: كم مِنْ كنْز موهبةٍ
لديْكِ في "القُمْقُمِ" المسحورِ مخزون

لعلَّ تلك العفاريتِ التي احْتُجِزتْ
مُحَمَّلاتٌ على أكتافِ "دُلفينِ"

لعلَّ يوماً عصُوفاً جارفاً عَرِمَاً
آتٍ فتُرضيك عُقبان وتُرضيني

* * *

يا دجلةَ الخيرِ: إن الشِعْرَ هدهدةٌ
للسمع، ما بين ترخيمٍ وتنوين (15)

عفْواً يُردّد في رَفْهٍ وفي عَللٍ
لحن الحياة رخيّاً غَيْرَ ملحونِ (16)

يا دجلة الخير: كان الشعرُ مُذْ رَسمتْ
كفُّ الطبيعةِ لوْحاً "سفرَ تكوينِ"

"مزمارُ داودَ" أقوى مِنْ نبوّتهِ
فحوى ، وأبلغُ منها في التضامينِ

يا دجلة الخير: لم نصحبْ لمسْكنةٍ
لكنْ لنلْمِسَ أوجاعَ المساكينِ (17)

هذى الخلائقُ أسفارٌ مُجسّدةٌ
المُلهمونَ عليها كالعناوينِ (18)

إذا دجا الخطْبُ شعَّت في ضمائرهم
أضواءُ حرْفٍ بليل البؤسِ مرهونِ

دَيْنٌ لزامٌ، ومحسودٌ بِنِعمتهِ
من راح منهم خَليصاً غير مديونِ

* * *

يا دجلة الخير: ما أبقيتُ جازِيةً
لم أقضِ عنديَ منها دَيْنَ مديون(19)

ما كنتُ في مَشْهدٍ يَعنيك مُتَّهماً
خَبّاً، وما كنتُ في غيبٍ بظْنِّين (20)

وكان جُرحُكِ إلهامي مُشاركَةً
وكان يأخذُ من جُرحي ويُعطيني

وكان ساحُكِ من ساحي إذا نزلت
به الشدائد، أقريه ويَقريني (21)

حتى الضفادعُ في سفحيكِ سَارِيةً
عاطيتُها فاتناتٍ حُبَّ مفتون (22)

غازلتُهنَّ خليعاتٍ وأن لبست
من الطحالب مزهوَّ الفساتين

يا دجلة الخير: هلاَّ بعضُ عارفَةًٍ
تُسدّى إليَّ على بُعدٍ فَتَجزينني (23)

يا دجلة الخير: مَنِّيني بعاطفة
وألْهِمينيَ سُلواناً يُسَلِّيني

يا دجلة الخير: من كل الأُلى خبَرَوا
بَلوايَ لم ألفِ حتى من يواسيني (24)

يا دجلة الخير: خلِّي الموجَ مُرتفقاً
طيفاً يمرُّ وإن بعضَ الأحايين(25)

وحمِّليه بحيثُ الثلجُ يغمرني
دفءَ "الكوانين"، أو عطر "التشارين" (26)

* * *

يا دجلة الخير: يا من ظلَّ طائفُها
عن كل ما جَلَتِ الأحلام يُلهيني (27)

لو تعلمين بأطيافي ووحشتِها
ودِدت مثلي لَوَ أنَّ النومَ يجفوني

أجسُّ يقظانَ أطرافي أعالجها
ممَّا تحرَّقت في نومي بأتُون (28)

وأستريح إلى كوبٍ يُطمئنُني
أن ليس ما فيه مِن ماءٍ بغِسلين (29)

وألمِسُ الجُدُرَ الدَكناءَ تخبرني
أنْ لستُ في مَهْمَهٍ بالغيل مسكون (30)

يا دجلة الخير: خلِّيني وما قَسَمَتْ
لي المقاديرُ من لدغ الثعابين

الطالحاتُ فما يبعثْنَ صالحةً 
ولا يُبعثرْنَ إلاَّ كلَّ مأفون (31)

والراهناتُ بجسمي يَنْتَبِشن به
نبشَ الهوامِ ضريحاً كلَّ مدفون

* * *

واهاً لنفسيَ من جمعِ النقيضِ بها
نقيضَه جمْعَ تحريكٍ وتسكين

جنباً إلى جنب آلامٍ أُقطِّفُها
قَطْفَ الجياع جَنى اللّذّات يزهوني

وأركبُ الهوْلَ في ريعانِ مامنَةٍ
حبُّ الحياةِ بحبِّ الموتِ يُغريني

ما إن أُبالي أصاباً درَّ أم عسلاً
مريٌ أراه على العلاّتِ يرضيني (32)

غُولاً تسنَّمتُ لم أسألْ أكارعَه
إلى الهُوَى، أمْ على الواحات ترميني (33)

وما البُطولاتُ إعجازٌ وإنْ قنِعت
نفسُ الجبانِ عن العلياء بالهُون (34)

وإنَّما هي صفوٌ من مُمارسَةٍ
للطارئات، وإمعَانٍ، وتمرين (35)

لا يُولَدُ المرءُ لا هِرّاً ولا سَبُعاً
لكن عصارةَ تجريبٍ وتلقين (36)


(15) الهدهدة : مناغاة الطفل لينام وهي أيضاً ترجيع الطائر لهديله وغنائه والترخيم هو من رخامة الصوت ، والتنوين وهو تقريب الحرف على الحرف الآخير من الكلمة إلى نون.
(16) الرفه : الراحة ، والعلل : التمهل.
(17) اصحب : تابع وطاوع.
(18) الملهمون : يقصد الشعراء.
(19) الجازية: الإحسان.
(20) الخب: الخداع، ظنين: كثير الظن والشك.
(21) قرى: قدم القرى وهو الزاد.
(22) في هذا البيت والذي يليه إشارة إلى قطعة من مقصورته المنشورة في الجزء الثالث يصف فيها مرح الضفادع في شواطئ دجلة أولها:
سلام على جاعلات النقيق *على الشاطئين بريد الهوى
(23) عارفة: إحسان.
(24) لم ينشر هذا البيت في ” بريد الغربة ” ولا في ” بريد العودة ” وقد نشر مع القسم الذي نشر من القصيدة في جريدة ” المستقبل “.
(25) مرتفق: يريد مترفق.
(26) الكوانين: جمع كانون وهو الموقد، والتشارين: جمع تشرين، وردت في ” الجريدة “: عطر التشارين أو دفء الكوانين.
(27) في هذه القطعة وصف للأطياف المرعبة التي كانت تضغط على الشاعر في نومه في السنة الأولى من تغربه عن العراق وكأنها الكوابيس.
(28) الأتون: الفرن.
(29) ورد البيت في ” الجريدة “:
واطمئن إلى كوب أُعل به = أن ليس ما فيه من ماءٍ بغسلين
(30) المهمه: القفر. والغيل: يريد الأغوال.
(31) المأفون: الفاسد العقل.
(32) لم ينشر هذا البيت في ” بريد الغربة ” ولا في ” بريد العودة ” وقد نشر في جريدة ” المستقبل “. الصاب: عصارة شجر مر. والمري: مسح ضرع الناقة لتدر.
(33) الهوى: جمع هوّة.
(34) البطولات: وردت في الجريدة، الرجولات. الهون: الهوان.
(35) صفو: في الجريدة، فضل.
(36) عصارة: في الجريدة، تفاوت.