|
يا دجلة الخير: كم معنّى مزجتُ له
 دمي بلحمي في أحلى المواعين
ألفيته فَرْطَ ما ألوى اللواةُ به
يشكو الأمرَّينِ من عَسْفٍ ومن هُون (37)
أجرَّه الشوكَ ألفاظٌ مُرَصَّفةٌ
أجرَّها الشوكَ سجعٌ شِبهُ موزون (38)
سَهِرتُ ليلَ "أخي ذبيان" أحضُنه
حَضْنَ الرواضعِ بين العتِّ واللين (39)
أُعيدُ من خَلقه نحتاً وخَضْخضةً
والنجمُ يَعْجَب من تلك التمارين
حتّى إذا آضَ ريَّان الصِبا غَضِراً
مهوى قلوبِ الحسانِ الخرَّدِ العين (40)
أتاح لي سُمَّ حيَاتٍ مُرقَّطةٍ
تَدبُّ في حمَاًٍ بالحقد مَسْنون (41)
فهل بحسبِ الليالي من صدى ألمي
أني مَضِيغَةُ أنيابِ السراحين (42)
الآكلين بلحمي سُمَّ أغرِبَةٍ
وغُصَّةٍ في حلاقين الشواهين (43)
والساترينَ بشتمي عُرْيَ سوأتِهم
كخَصْفِ حوّاءَ دوحَ التُوتِ والتين (44)
والعائشينَ على الأهواء مُنزلةً
على بيانٍ بلا هَديٍ وتبيين
والميِّتينَ وقد هيضت ضمائرهُم
بواخزٍ معهم في القبر مدفون (45)
* * *
صنّاجةَ الأدبِ الغالي، وكم حِقَبٍ
بها المواهبُ سيمَت سَوْمَ مغبون (46)
ومُنْزِلَ السُِّوَرِ البتراءِ لاعِنَةً
مَنْ لم يكن قبلها يوماً بملعون
جوزيتَ عنها بما أنت الصليُّ به
هذا لَعمري عطاءٌ غيرُ ممنون !!(47)
ماذا سوى مثلِ ما لاقيتَ تأمُلُهُ
شمُ العرانين من جُدْع العرانين (48)
حامي الظعائن لاحمدٌ ولا مِقةٌ
وقد يكون عزاءً حمدُ مظعون (49)
لمن ؟ وفيمَ ؟ وعمَّن أنت محتملٌ
ثِقْلَ الدَّيات من الأبكار والعُون ؟ (50)
* * *
ويا زعيماً بأن لم يأته خبرٌ
عمّا يُنشَّرُ من تلك الدواوين (51)
لك العمى ومتى احتجَّتْ بأن قَعَدتْ
عن الموازينِ أربابُ الموازين
بل قد مَشَتْ لكَ كالأصباحِ عابقةً
وأنت تحذرها حذرَ الطواعين (52)
كفرتُ بالعلم صِفْرَ القلب تحمله
للبيع في السوق أشباهُ البراذين (53)
كانت عباقرةُ الدنيا وقادتُها
تأتي المورِّقَ في أقصى الدكاكين (54)
تلمُ ما قد عسى أن فات شارِدُهُ
عنها، ولو كان في غُيَّابة الصين
لهفي على أمَّةٍ غاض الضميرُ بها
من مدّعي العلمِ، والآداب والدين
موتى الضمائرِ تُعطي المَيْتَ دمعَتها
وتستعينُ على حيٍّ بسكِّين
لابُدَّ معجِلةٌ كفُّ الخَراب به
بيتٌ يقوم على هذي الأساطين (55)
* * *
جُبْ أرْبُعَ النقد، واسألْ عن ملاحمها
فهل ترى من نبيغٍ غيرِ مطعون (56)
وقِفْ بحيثُ ذوو النَّزْعِ الأخير بها
وزُرْ قُبورَ الضحايا والقرابين
ترَ الفطاحلَ في قتلٍ على عَمَدٍ
همُ الفطاحلُ في صوغ التآبين (57)
مِن ناكرٍ عَلَماً تُهدى الغواة به
حتى كأن لم يكن في الكاف والنون (58)
أو قارنٍ باسمه خُبثاً وملامةً
مَن ليس يوماً بضبْعَيْهِ بمقرون (59)
تشفّياً: إنَّ لمحَ الفكر منطلقاً
قذىً بعين دعيِّ الفكر مأفون (60)
عادى المعاجمَ وَغْدٌ يستهين بها
يُحصي بها " أبجدياتٍ " ويعدوني
شلَّت يداك وخاست ريشةٌ غفلت
عن البلابل في رسم السعادين (61)
|
(37) ألفيته: أي ألغيت الشعر. ألوى: يريد لوى. للهواة هنا دعاة الشعر. يلوون: يميلون ويزيفون.
(38) وأجره الشوك: أي جره عليه، والضمير هنا عائد على الشعر والفاعل ” ألفاظ “. مرصفة: مرتبة مصفوفة.
(39) ” ليل أخي ذبيان”: أي النابغة الذبياني، وإنما نسب الليل إليه لمطلع قصيدته:
كليني لهَمٍّ يا أميمة ناصبِ = و” ليلٍ ” أقاسيه بطيء الكواكبِ
(40) آض: عاد أي استحال.
(41) حيات مرقطة: أعداء الشاعر وحساده، حمأ مسنون: الطين القذر النتن.
(42) السراحين: الذئاب.
(43) الأغربة: الغربان، الحلقوم: الحلق وجمعه ” حلاقيم ” كأن الشاعر أبدل الميم نوناً فصارت حلاقين، الشواهين: طيور كاسرة.
(44) أي كما تجمع حواء ورق التوت والتين لتستر عورتها.
(45) هيضت: كسرت.
(46) صناجة الأدب: الشاعر الكبير.
(47) الصلي: المصطلي.
(48) العرانين: جمع ” عرنين ” وهو ما صلب واشتد من عظم الأنف، والشم: جمع أشم وهو المرفع، وشم العرانين كناية عن العزة والأنفة.
(49) المقة: المحبة.
(50) الديات: جمع ” دية ” وهو ما يدفع من مال أو حلال تعويضاً عما يلحق بالجرحى أو القتلى أو المتضررين، والأبكار: النوق الصغار، والعون الكبار.
(51) يا زعيماً: يا مدعياً.
(52) مشت: أي الدواوين، الأصباح: جمع صباح، عابقة: طيبة الرائحة.
(53) البراذين: جمع برذون وهو الحمار ويريد باشباه البراذين: النقاد الذين استهانوا بشعره، وهم صفر القلب أي بلا ضمير.
(54) المورق: الوراق وهو الكتبي، تقصده لشراء الكتب.
(55) الأساطين: جمع اسطوانة، وهي الأعمدة التي يقوم عليها البيت.
(56) جبْ: من جاب يجوب يريد اقصد، أربع النقد: أي حيث تقيم القصائد الرائعة التي وصفها بالملاحم.
(57) على عمد: فتح الميم ضرورة، والأصل السكون.
(58) كأن لم يكن في الكاف والنون: أي كأن لم يكن موجوداً.
(59) الضبعان: العضدان.
(60) المأفون: ضعيف العقل.
(61) خاست: خانت.