دجلة الخير.

يا دجلة الخير: ردّتني صنيعتَها
خوالجٌ هُنَّ من صنعي وتكويني

إن المصائبَ طوعاً أو كراهيةً
أعَدْنَ نَحْتِي، كما أبدَعْنَ تلويني

أرينني أنّ عندي من شوافِعِها
إذا تباهى زكيٌ ما يزكّيني

وجَبَّ شتَى مقاييسٍ أخذتُ بها
مقياسُ صبرٍ على ضُرّ وتوطين (62)

وراح فضلُ الذي يبغي مباهلتي
نعمى تعنِّيه، من بؤسي تعنيني (63)

* * *

يا دجلة الخير: شكوى أمرُها عجبٌ
إنّ الذي جئت أشكو منه يشكوني

ماذا صنعتُ بنفسي قد أحقْتُ بها
ما لم يُحقْهُ ب "روما" عسفُ "نيرون"

ألزمتها الجِدَّ حيثُ الناسُ هازلٌ
والهزلَ في موقفِ بالجدِّ مقرون

وسُمْتُها الخسفَ أعدى ما تكون له
وأمنعُ الخسفَ حتى من يعاديني

ورحتُ أظمي وأسقي من دمي زُمراً
راحت تُسقي أخاً لؤمٍ وتُظميني

وقلتُ بالزهدِ أدري أنَّه عَنَتٌ
لا الزهدُ دأبي، ولا الإمساك من ديني

خَرطَ القتاد أمنّيها وقد خُلِقتْ
كيما تنامَ على وردٍ ونسرين (64)

حراجةٌ لو يُرى حمدٌ يرافقها
هانتْ وقد يُدرّى خطبٌ بتهوين (65)

لكنْ رأيتُ سِماتِ الخيرِ ضائعةً
في الشرِّ كاللثغِ بين السينِ والشين

ما أضيعَ الماسَ مصنوعاً ومنطَبِعاً
حتى لدى أهلِ تمييزٍ وتثمين

* * *

يا دجلة الخير: هل أبصرتِ بارقةً
ألقت بلمحٍ على شطَّيكِ مظنون ؟

تلكمْ هي العمرُ ومضٌ من سنَا عدمٍ
ينصَّبُ في عَدَمٍ في الغيبِ مكنون

يا دجلة الخير: هل في الشكِّ منجلياً
حقيقةٌ دون تلميحٍ وتخمين ؟

أم خولطت فيه أوهامٌ وأخيلةٌ
كما تخالطت الألوانُ في الجُون

أكاد أخرج من جلدي إذا اضطربت
هواجسٌ بين إيقانٍ وتظنين

أقول لو كنزُ قارونٍ وقد عَلِمَتْ
كفَّايَ أن ليس يُجدي كنزُ قارون

أقول: ما كنزُ قارون، فيدمَغُني
أنَّ الخَصاصةَ من بعض السراطين

أقول: ليت كفافاً والكفافُ به
رُحبُ الحياةِ، وأقواتُ المساجين

أقولُهنَّ وعندي علمُ ذي ثقةٍ
أنّ ليس يُؤخَذَ علمٌ بالأظانين

وإنَّما هي نفسٌ همُّ صاحبها
أنْ لا تُصدِّقَ مدحوضَ البراهين (66)

لم يوهب الفكرُقانوناً يُحصِّنه
من الظنونِ، ومن سُخف القوانين

* * *

يا نازحَ الدارِ ناغِ العُودَ ثانيةً
وجُسَّ أوتارهُ بالرِفْقِ واللين

لعلَ نجوى تُداوي حرَّ أفئدة
فيها الحزازاتُ تَغلي كالبراكين

وعلَّ عقبى مناغاةٍ مُخفَّفةً
حمّى عناتر "صفينِ" و "حطين"

ويا صدى ذكرياتٍ يستثرن دمي
بهزّةٍ جمَةِ الألوان تعروني

أشكو المرارةَ من إعناتِ جامحةٍ
منها إلى سمحةٍ برٍّ فتُشكيني (67)

مثلَ الضرائرَ هذي لا تطاوعني
فأستريحُ إلى هذي فتُؤويني

* * *

ويا مَقيلاً على غربيِّها أبداً
ذكراهُ تَعطِفُ من عودي وتلويني (68)

عُشُّ الأهازيجِ من سَجعي يُردِّدها
سجعُ الحَمامِ وترجيعُ الطواحين

وسِدْرةٌ نبعُها خضْدٌ، وساقيةٌ
وباسقُ النخلِ معقوفُ العراجين (69)

ومُسْتَدقُّ صخورٍ من مآبرها
رؤىً تَظَلُّ على الحالينِ تُشجيني (70)

من أنمل الغِيد في حسنٍ تُتمِّمه
فإنْ تعرَّتْ قمن أنياب تنِّين (71)

يا مجمعَ الشملِ من صحبٍ فُجعتُ به
وآخرٍ رُحْتُ أبلوه ويبلوني

ويا نسائمَ إصباحٍ تصفِّقُ لي
ندى الغصون بليلاتٍ وتَسقيني

ويا رؤى أُصُلٍ نشوى تراوحني
ويا سنا شفقٍ حلوٍ يُغاديني

ويا مَداحةَ رملٍ في مَخاضتها
راحت أُصيبيةٌ تلهو فتُلهيني

وضجَّةٌ من عصافيرٍ بها فزعٌ
على أكِنَّتِها بين الأفانين (72)

ومنطقٌ ليس بالفصحى فتفهمُه
يوماً وما هو من حسٍ بملحون

وأنت يا دجلة الخيرات سِعْليةٌ
قرعاء نافجةُ الحضنينِ تعلوني (73)

لا ضيرَ كلُّ أخي عُشٍّ مفارقُه
وأيُّ عشٍّ من البازي بمأمون !

* * *

ويا ضجيعَي كرىً أعمى يلفُّهما
لفَّ الحبيبين في مطمورةٍ دُون

حسبي وحسبُكما من فرقةٍ وجوىً
بلاعجٍ ضَرِمٍ كالجمْرِ يَكويني

لم أعْدُ أبوابَ ستينٍ، وأحسبني
هِمَّاً وقفتُ على أبواب تسعين (74)

يا صاحبيَّ إذا أبصرت طيفَكما
يمشي إليَّ على مَهلٍ يحييني

أطبقتُ جَفناً على جَفنٍ لأبصرَه
حتى كأنَّ بريقَ الموتِ يُعشيني

إنِّي شَمِمتُ ثرىً عفناً يضمُّكما
وفي لُهاثيَ منه عِطرُ "دارين" (75)

بنوةً وإخاءً حلفَ ذي ولَعٍ
برتبةٍ في الغد الداني تغطيني

لقد وَدِدْتُ وأسرابُ المنى خُدعُ
لو تَسلمان وأنَّ الموت يطويني

قد مِتُّ سبعينَ موتاً بعد يومِكما
يا ذلَّ من يشتري موتاً بسبعين

لم أقوَ صبراً على شجوٍ يرمِّضُني
حرَّانَ في قفصِ الأضلاعِ مسجون

تصعدتْ أهٍ من تلقاء فطرتها
وأردفت آهةٌ أُخرى بآمين

ودبَّ في القلبِ من تامورِه ضرمٌ
ما انفكَّ يُثلج صدري حين يُصليني (76)

براغ – شتاء عام 1962


(62) جب: ألغى، عطل.
(63) المباهلة: المنافسة.
(64) القتاد: الشوك، وخرط القتاد: تحمل المشاق.
(65) يدرّى: يدفع.
(66) دحض: أبطل.
(67) تشكيني: بضم التاء، تزيل شكواي.
(68) تعطف: تلوي. والمقصود بـ “المقيل على غربي دجلة” البيت الذي كان يقيم فيه الشاعر عدة سنوات في جانب الكرخ.
(69) السدرة: واحدة السدر وهي شجرة النبق. خضد: مكسور. العراجين: جمع عرجون وهو عذق النخلة.
(70) المئبر: مارق من الرمل.
(71) التنين: حيوان بحري خرافي ضخم.
(72) الأكنة: جمع كنان وهي الستر ويريد به العش، الأفانين: جمع أفنان والأفنان جمع فنن وهو الغصن الرقيق.
(73) لم ينشر هذا البيت في ” بريد الغربة ” ولا في ” بريد العودة ” ونشر في جريدة ” المستقبل “. والسعلية : حيوان خرافي. نافجة الحضنين: كناية عن التعاظم والتكبر والخيلاء.
(74) الهم بالكسر: الشيخ الفاني.
(75) دارين: قرية من قرى الشام.
(76) التامور: غلاف القلب.