لبنان يا خمري وطيبي.

صنَّاجةَ الكلم الرقيق
ومزْهرَ النغمِ الرتيب (16)

جئتَ العراقَ فعاش فيك
عهودَ "أحمدَ" و "الحبيب" (17)

وسحرتَ أمَّ السحر "با
بلَ" بالعجيب وبالغريب

أبِشارةٌ "أنذا" لديكَ
محمَّلاً بُرُدّ القلوب

تُهدى إلى نِعم المثابِ
على يدي نِعَم المثيب

من سُوح دجلةَ والفرا
تِ منابتِ المجدِ السليب

أمِّ الشموسِ ومسرح
الدنيا دمنتطحِ الشعوب

من نخله وزُيوته
ومن الشَّمال إلى الجنوب

من مكمَن القنَّاص فيه
لقانصِ الرشأ الربيب (18)

من دار "هارون" الرشيد
لدارةِ الأدبِ الحسيب

سِقطُ الندى من شهرزاد
لغصن "أندَلُسَ" الرطيب

من "ألفِ ليلتها" لليلتكَ
الغريقةِ بالطيوب

من لحنِ "زِريابٍ" و "إسحقٍ"
على شَفتي "عَريب" (19)

لمُرقرِق النغمات في
أكوابِ منطقهِ الخَلوب

من عِطر خمر "أبي نواسٍ"
بين أرباض الكثيب (20)

المُستدرِّ الكأسَ من
خلُقِ النَدامى والشَروب (21)

والعابثِ الهازي بما
درّت نياقٌ من حليب

لمعتِّقٍ زهرَ الربى
عن دِيمةٍ سمْحٍ سكوب (22)

"كالبحتريّ" يُقرّب الأ
بعادَ باللفظِ القريب

* * *

يا مبضعَ الألمِ الحبيسِ
وبَلسم الجُرحِ الرغيب (23)

لا شَلَّتِ الكفُّ التي
مَسَحَتْ على روحِ الكئيب

ومذّوبَّ الأنغام لا
خانتكَ بوتقةُ المذيب

لغةُ الجمالِ نخلتَها
من كل حوشيٍّ مشوب

ووهبتَها الأجيالَ تر
عى منَّة السَمْحِ الوهوب

* * *

لُبنانُ يا خمري وطيبي
لا لامستكِ يدُ الخطوب

لبنان يا غُرفَ الجنا
ن الناضحات بكلِّ طيب

متناثراتٍ في المشا
رفِ والأباطحِ والدروب (24)

الفاتناتِ بما اقتبسنَ
من الشروقِ أو الغروب

ألقَ التوقدِ بكرةً
وأصائلاً ألقَ الشُّحوب

يا بنت ساحرة أرا
دتْ منكِ معجزةَ الحُقوب (25)

نفثت أفانين الرؤَى
ما بين صُلبِك والتريب (26)

بالشمس حالمةَ السنا
والريحِ ناعمةَ الهُبوب

سرّحتُ طرفي في نسيج
الله والصنعِ العجيب

في سحر أنمُلةٍ جلتْ
مَوشيِّ مِطرَفِكِ القشيب (27)

في السفح، في قِمم الثرى
في البحر، في خُضْر السُهوب

فجَهِلْتُ أيّاً أنتقي
من حسن أشتاتٍ ضُروب

لطفَ السِوارِ بكِ الخضيبِ
أم لُطفَ معصمك الذهيب

* * *

لبنانُ يا وطني إذا
حُلَّئتُ عن وطني الحبيب (28)

نسرٌ يحوم على ربا
كِ فلا تخافيه كذيب

أبشارةٌ وبأيما
شكوى أهُّزكَ يا حبيبي ؟

شكوى القريب إلى القريب
أم الغريب إلى الغريب ؟

هل صكَّ سمعَك أنني
من رافدَيَّ بلا نصيب (29)

في كُربةٍ وأنا الفتى
الممراحُ فرّاجُ الكروب

أنا "عروةُ الوردي" رمزُ
مرؤةِ العَرَبِ العريب

وزّعت جسميَ في الجسو
م ومهجتي بين القلوب (30)

* * *

أبشارةٌ يا ناخل الأ
يام بالفكر الأريب

يا من نزلت بسُوحها
من يانع خضل وموبي (31)

يا من أذبت ضريبها
في عَلْقمِ الألم الوصيب (32)

يا من غَذِيتَ من الأذى
و شَبِعْتَ من إفْكٍ وحُوب (33)

أعَرفْت أوجع من مُثا
بٍ بالعُقوقِ ومن مُثيب

أبشارةٌ إني لأرمز
عن همومٍ تغتلي بي

كَذَبَ التبجُّح غير ما
يُنبيكَه حالُ الأديب

أبشارةٌ يا أصغر الأ
خوين سِنًّا يا ربيبي!! (34)

أنعشْ بكوبك سُؤرَ كوبي
وأذِبْ نصيبَك في نصيبي

لك فضلةٌ في العمر من
أعمارِ شُبانٍ وشيب


(16) صناجة الكلم: جيد الشعر، والصنج آلة طرب.
(17) أحمد والحبيب: المتنبي وأبو تمام.
(18) الرشأ: ابن الغزال.
(19) الثلاثة من أعلام الغناء العربي.
(20) الأرباض والكثيب: مجتمع الرمل.
(21) الشروب: الشارب.
(22) ديمة: سحابة.
(23) البلسم: الدواء. والرغيب: الواسع.
(24) المشارف والأباطح: المرتفعات والسهول.
(25) الحقوب: يريد الأحقاب والأحقب جمع حقبة: مدة من الزمن.
(26) التريب: يريد مفرد الترائب عظام الصدر.
(27) الأنملة: واحدة الأنامل وهي رؤوس الأصابع، والمطرف: الثوب الموشى.
(28) حلئت: منعت.
(29) يشكو الشاعر الحال التي كان عليها في العراق.
(30) يشير إلى أبيات عروة بن الورد المشهورة:
إني امرؤ عافى إنائي شركة = وأنتَ امرؤٌ عافى إنائك واحد
وفيها يقول: ” أفَرِّق جسمي في جسوم كثيرة “.
(31) الخضل: الرطب، والموبيء: القليل من الماء وقد سهل الشاعر الهمزة.
(32) الضريب: العسل الأبيض. الوصيب: الموجع.
(33) الإفك والحوب: الباطل والإثم، يريد ما اخترعه الخصوم عليه.
(34) الأخوين يقصد بهما الأخطل الكبير والأخطل الصغير.