ذكرى عبدالناصر .

ساءلتُ نفسي لا أريد جوابَها
أنا أمقُتُ الضرّاع والبكّاءَ (28)

أترى " صلاح الدين " كان محمَّقاً
إذ يستشيط حميّةً وإِباءَ

أم عادت " القدس " الهوانَ بعينه ؟
أم عاد دين المسلمين رياءَ ؟

* * *

يا ابن " الكِنانةِ " وابنَ كلِّ عظيمةٍ
دهياءَ تُحسن في البلاء بلاءَ (29)

أعززْ علينا أن تساء منبَّئاً
ما كنت تكره مثلها أنباءَ:

ذُبح " الفُداةُ " ورُحتَ أنت ضحيةً
عنهم، وما أغنى الفِداء فداءَ

ذُبح " الفداة " وليت ألْفي ذابحٍ
عن إصبَعٍ منهم يروح وقاءَ

واخزيةَ " الأُرْدُنِّ " صُبِّغ ماؤه
من خير أعراقٍ لديه دماءَ

لا طالعتْ شمس النهار ضفافَهُ
وتساقطت رجماً عليه مساءَ

نذروا لأشلاء الغزاة بغَربِهِ
فتساقطوا " شرقيّه " اشلاء

تلك العظامُ سيستطير غُبارُها
يُعمي الملوكَ، ويطمُرُ الأمراءَ

وإذا عجبت فأَنْ يلمّ رميها
من حوله " الفرقاء " والفرقاءَ

لجأوا لأدبار " الحلول " فسمِّيت
وَسَطاً، وسمِّي أهلها وُسطاءَ

* * *

يا مصرُ يا حُلم المشارق كلِّها
مذ عانت الأحلام والأهواءَ

يا بنتَ " نيلك " من عذوبة جرسِهِ
نغماتُ جرسك رفّةً وصفاء

حَضَنَ الحياةَ صبيّةً فمشت به
ومشى بها يتباريان سواءَ

يقظى ليقظانٍ يَهُزُّ سريرها
لم تقوَ في شُطئانِهِ إغفاءَ

وربيبةَ " الهرمين " شاخا إذ هما
يتبنّيانِكَ صبوةً وفَتاء

تُلْقِينَ في السرّاء سحرَك كلَّه
وتموّعين بصبرك الضراءَ

وتموِّنين الدهر سبعاً خِصبةً
يُكفَى بها سبعاً له جدباءَ

مشت القرونُ، وخلّفت أسحارها
ترمي عليك الطلَّ والأنداءَ

والصبحُ يصبغُ وجنةً مشبوبةً
والليلُ يكحُلُ مقلةً وطفاءَ (30)

والشمس تلفَحُ سُمرةً عربية
والنجم يُرقِص قامةً هيفاءَ

ودَرَجتِ في حَقْلِ " الحضارة " غضّةً
وبدأتِه تفّاحةً خضراءَ

ولممتِ عن جنبيهِ أزهارَ الرُّبى
وجلوتِهنَّ جنائناً غنّاءَ

أسكنتِهُنَّ الشعرَ والشعراءَ
والعلم، والعلماءَ، والحكماءَ

شِعّي برغم الداجيات، وزحزحي
منها، وزيدي بهجة ورُواءَ

وتماسكي، فلقد صَمَدْتِ لمثلِها
وأمرَّ، ثم أطرتِهنَّ هباءَ

شِعّي، فَقاراتٌ ثلاثٌ تجتلي
عَبر العُصور سِراجَكِ الوضّاءِ

يا مصرُ، أحرفُك الثلاثةُ كنَّ لي
لولا الغلوُّ، الوجدَ والإِغماءَ

عشرين عاماً لم أزرْكِ وساعةٌ
منهنّ كانت منيةً ورجاءَ

لِمْ ؟ لست أدري غير أنَّ قصائداً
عشرين لم تشفعْ لديكِ لقاءَ

ناغيتُ فيها شعبَ مصرَ وهِجتُهُ
ورجوتُه أن يركبَ الهيجاءَ

وشجبتُ " فرعوناً " يتيه بزهوه
ينهى ويأمر سادراً ما شاء (31)

وظلِلتُ أحْسُدُ زائريك، وخِلتُني
رتعاءَ، تحسُد أختها العجفاءَ (32)

من كلّ حدْبٍ ينسلون، ولم أكنْ
– وهواكِ – فيهم نسلةً نكراءَ

وَهَبى ثقيلَ الظلِّ كنتُ فلم أُطَقْ
أفما أَطَقْتِ – فديتكِ – الثقلاءَ

دلّلتُ فيك أُبوّةً عهدي بها
علمَ اليقين، تدلَّل الأَبناءَ


(28) الضراع: كثير التضرع أي الخضوع في الدعاء أي التذلل.
(29) الكنانة: مصر.
(30) المقلة الوطفاء: طويلة الهدب.
(31) فرعون: ملك مصر.
(32) الرتعاء: الشبعانة السمينة، العجفاء: الجائعة المهزولة.