يا نديمي …
* نظمت عام 1962/1963 في براغ.
يا نديمي: نفسي جُذاذات طِرسِ
عَريتْ فوقها بطُهرٍ ورِجسِ (1)
من مَراقي نُعمى وهوّات بؤسِ
من أشمٍّ ومن أخسٍّ أخسِّ (2)
كَذَبَ البُحتريّ إذ قال أمسِ:
"صنتُ نفسي عما يدنسُ نفسي"
دنسَ النفسِ حُلَّةٌ من دِمَقسِ
لن تُغطّي ولو بمليون عُرسِ
* * *ِ
سألتني: وقلبُها يَجِبُ
أمدَى الدهرِ أنتَ مُغتربُ ؟ (3)
أملولُ أمْ أنت مُجتَنبُ
أم هو الدهرُ أمرهُ عجَبُ
قلتُ: مالي بذي وذا نسبُ
أنا لي من جِبلَّتي عَصبُ (4)
قُدَّ صَوّانُهُ من الحجرِ (5)
فهو لا يستلذَُ بالسُّررِ
* * *
يا نديمي: إنَّ الدجى وضَحا
والهزارَ الغافي هناك.. صحا (6)
يا نديمي: وصُبَّ لي قَدَحا
ألمِسُ الحزنَ فيه والفرَحَا
وأرى: من خِلالِه شَبَحا
من نِثارِ الهمِّ الذي طَفَحَا
في شبابٍ مَضيَّعٍ هدَر
مثلَ عُودٍ خاوِ بلا وترِ
* * *
يا نديمي: شاطرْنيَ القَدَحا
ثم هَبْ لي صبابةَ القدحِ (7)
إنَّ فيما تعافُ منتدحَا
من غَبوقٍ به ومُصطَبحِ (8)
رُبَّ صدرٍ برشفةٍ نضحا
وعصيٍّ ألوى فلم يَبُحِ
فأرِحْ قلبَ مُلهَمٍ مَرحِ
من غُثاءٍ عليه مُطَّرحِ (9)
* * *
يا نديمي: وصُبَّ لي قدحا
وأعرني حديثَك المرِحا
يا نديمي: وأمسِ رأدَ ضُحى
قلتَ لي قولَ مُشفِقٍ نَصحَا (10)
ما علينا ! أبارحٌ سنحا
أمْ سنيحٌ بقفرةٍ برَحا (11)
أفنحنُ الحُداةُ للبشرِ
أم رعاةُ الأغنام والبقرِ
* * *
يا نديمي: ورِقّةُ السَّحرِ
وتَهاوي النجومِ في الأثرِ (12)
وخفوتُ الأضواء كالخدَرِ
دبَّ في جسم ماردٍ أشِرِ (13)
لموحةٌ فوقَ طاقةِ البشرِ
لتداعي الأفكار والصُّوَرِ
يا نديمي: وَعدِّ عن خَبري
في سموٍّ منها ومُنحدَرِ
* * *
يا نديمي: وكم يدٍ ويدِ
للنَّدامى مُدَّتْ فلم تَعُدِ
غَفلتْ عن خبيثةٍ رَصَدِ
واستنامت رخيَّةً لِغَدِ
يا نديمي: فَسَقِّني وزدِ
فيدي ما تزالُ في عَضُدي (14)
وغدي إنْ يغبْ وإن يزُرِ
واجدٌ فيَّ صبرَ منتظِرِ
* * *
يا نديمي: ونوَّرَ السَّحرُ
فالرُّبى والسفُوحُ تنتشرُ
والنجومُ الخرساءُ تنحدرُ
وكأنَّ الصباحَ ينفطرُ
غادةٌ بالحياء تأتزرُ
فهي تبدو طوراً وتستترُْ
ثم تمشي خجلى على حذَرِ
مشيَ عذراءَ.. دونما أُزُرِ
* * *
يا نديمي: وكم مضى سَحرُ
وكم استنَّ نهجَهُ وترُ (15)
وطرٌ جدَّ إذ مضى وطرُ
وكأنْ لم يكنْ له خَبرُ
يا نديمي: أُحَجيَّةٌ بشرُ
يَبعثُ الميتَ حين يفتَكرُ (16)
ثم يُلقي بهِ إلى الحُفرِ
لنضيدِ التُراب والحَجَرِ
|
(1) جذاذات طرس: قصاصات ورق.
(2) هوّات: جمع هوة.
(3) يجب: يضطرب، يخاف.
(4) الجبلة: الفطرة.
(5) قدّ: قطع أي صيغ وصنع. الصوّانة: ضرب من الحجر.
(6) الهزار: البلبل.
(7) صبابة: بقية.
(8) المنتدح: السعة. الغبوق: ما يشرب من الخمر مساء، والمصطبح: الشرب صباحاً.
(9) الغثاء: ما لا خير فيه وهو هنا ما يحس به من ثقل.
(10) رأد الضحى: ارتفاعه، أي وقت الضحى.
(11) البارح: هو الطير يأتي من يمين، والسائح: الطائر يأتي من شمال.
(12) تهاوى: تساقط.
(13) الأشر: البطر.
(14) سقِّني: اسقني.
(15) استن: سار على سننه أي على نهجه وطريقته.
(16) أحجية: لغز.
المصدر : ديوان الجواهري-الجزء الخامس-الجمهورية العراقية-وزارة الاعلام-مطبعة الأديب البغدادية -بغداد 1975م