يا نديمي .

يا نديمي: ورُبَّ نجوى سِرارِ
ليَ كانت مع النجومِ السواري (106)

لا لشيء إلاّ لفرطِ حَذار
من نفوسٍ ديفت بحُبٍّ مُواري (107)

لا لليلٍ داجٍ ولا لنهار
بُثَّ شكواكَ – صاحبي – لجدار

فهو أولى من خُدَّعٍ نُكُرِ (108)

ليس فيهم براءةُ الجُدُر (109)

* * *

يا نديمي: وكان يومٌ مَطيرُ
ونديمٌ وعازفٌ ومغنّي

وكؤوسٌ كادتْ شعاعاً تطيرُ
في أكفِّ السقاةِ مِن فرطِ حُسنِ (110)

وكأن الرعودَ بَمٌّ وزيرُ
وكأن الرذاذَ إيقاعُ لحنِ (111)

وإذا نحن نحتمي بِمِجَّنِّ (112)

من صروفِ الزمانِ في يومِ دَجْنِ (113)

* * *

وتقَضّى لهوٌ وغاضتْ مُدامُ
وتجاسى عودٌ ومات النديمُ (114)

فإذا بالرذاذِ وهو سِهام
وإذا بالغيوم مَوتى تحومُ

وإذا هذه الحياةُ انسجام
أشقاءٌ أتاحها أم نعيمُ

وإذا نحنُ إذْ تَرِقُّ نسيمُ

هبّ منها وحين تقسو سَموم

* * *

يا نديمي: والعلمُ أضحى حسابا
زاد جذراً أو راحَ يَنْقُص كُعْبا (115)

والخفيُّ المجهولُ شقَّ الحِجابا
لم يُداهنْ عبداً، ولا خاف ربّا

غير أنَّ النفوسَ ظلّت كتابا
مُغلقا، مُوحشَ الصحائفِ، صعبا

قُل لمن شارَفَ النجومَ وأربى

هل تلمسْتَ في مطاويكَ دربا ؟

* * *

يا نديمي: وقد بَشِمْت احتقارا
لضجيجِ الهُتافِ والتصفيقِ (116)

عِشْتُ أشقى ليلاً به ونهارا
عاشَ فيهنَّ من دمي وعُروقي

ثم لَمْ أُلفِ إذ لقيتُ العِثارا
في الملايينِ من صديقٍ صَدوق

غيرَ دعوى كفارغِ الهَذرِ

كصفيرِ الرياح في الشجرِ

* * *

يا نديمي: كم من شعارٍ كذوبِ
من مضامينه تهزّا الحروفُ (117)

كُلُّ ما فيه من هناءٍ وطيب
عن معانٍ أضدادُها تحريف

كان فيهنَّ شِبه مرعىً جديب
أخطأتْ قصدها إليه ضيوف

يا نديمي كلُّ الحروفِ تُخيفُ

في دساتيرَ شرَّعَتْها السيوف

* * *

يا نديمي: وأمّةٌ تَثِيبُ
ثم تغفو لَقِصَّةٌ عَجَبُ

عَجَباً كيفَ ينخُرُ السّغَبُ
في عظامٍ كأنها قَصَب (118)

نُهزَةٌ للرياحِ تنتحبُ
فإذا هزَّ عودَها غَضَب

آذنتْ للعيون بالشررِ

ثم تغفو فليس مِن خَبر


(106) السرار: سراً غير مسموعة.
(107) ديفت: مزجت. مواري: خداع.
(108) نكر: يريد نكرات.
(109) الجدر: جمع جدار.
(110) شعاعاً تطير: أي تتفرق.
(111) البم: الوتر الغليظ، والزير: الوترالدقيق ويريد الشاعر بهما أصوات الرعود.
(112) المجن: الترس الذي يحتمي به المحارب.
(113) الدجن: الغائم.
(114) غاض: غار. تجاسى: تصلب.
(115) كعبا: يشير إلى الجذر التكعيبي.
(116) بشم: شبع حد التخمة.
(117) تهزا: تتهزأ.
(118) نخر: استعملها الشاعر متعدية بمعنى أبلى. السغب: الجوع.